سليمان جودة
لو عاد أحد إلى لجنة الخمسين التى كان عبدالناصر قد كلفها بوضع مشروع دستور 1954، فسوف يكتشف أنها كانت تضم فى عضويتها يهودياً مصرياً، اسمه زكى عريبى، بما يعنى أن اليهود المصريين فى ذلك الوقت كانوا يستحوذون على 2٪ من إجمالى عضويات اللجنة، وبما يعنى أيضاً، فى اتجاه آخر، أن هؤلاء اليهود كانوا يمثلون جزءاً عضوياً من مجتمعنا، وكانت الدولة تنظر إلى كل واحد فيهم باعتباره مصرياً وفقط.
واقعة كهذه، لابد أن تكون فى أذهاننا ونحن نتعامل مع الدعوة التى أطلقها الدكتور عصام العريان، نائب رئيس حزب الحرية والعدالة، خلال حوار له مع الأستاذ حافظ المرازى، على قناة «دريم»، وكان من خلال دعوته لا يرى مانعاً من أن يعود اليهود المصريون إلى بلدهم الأم، بعد أن كانوا قد غادروها فى أعقاب عدوان 1956، وقبله، لأسباب مختلفة، يمكن أن نعود إليها، فيما بعد، لنستعرضها، سبباً وراء سبب.
وحين اشتدت الهجمة التى استهدفت الدكتور العريان، ولاتزال تشتد، فإننى أحسستُ فى مرحلة من مراحلها، بأننا نحن الذين تعرضنا لما جاء على لسانه، كنا فى حاجة إلى أن نتعرض لدعوته، على طريقة سقراط، قديماً، الذى كان كما اشتهر عنه، يحرص كل الحرص على أن يحدد الذين يتكلمون معه ابتداء، معانى الألفاظ التى تأتى فى أثناء الكلام، ثم ليتكلم بعد ذلك مَنْ شاء أن يتكلم!
ولذلك، أظن أن الدكتور العريان ذاته فى حاجة إلى أن يأخذ بهذا الأسلوب السقراطى، ويكتب مقالاً، يحدد فيه بالضبط أركان دعوته، ومبرراتها، وطبيعة توقيتها، حتى لا يجد نفسه، فى وقت من الأوقات، مسؤولاً عن أفكار يجرى تناقلها بين الناس، وهو فى الأصل، لم ينطق بها!
لقد أطلق الدكتور عصام دعوته، بشكل عابر، وحين أطلقها فإن الأستاذ المرازى بدا وكأنه غير مصدق لما يقال أمامه، وفى برنامجه، فراح يستوضح صاحب الدعوة، مرة بعد مرة، لعله يتقين، ومعه المشاهدون، من أن نائب رئيس الحرية والعدالة يعنى ما يقول، وفى كل مرة، كان الدكتور العريان يزداد تمسكاً بالدعوة، ويضيف إليها شرحاً، ومع ذلك، فإن دعوة بهذه الأهمية، تستأهل منه أن يعود إليها منفردة ويخصص لها حديثاً وحدها، لعل الناس يطمئنون!
من ناحيتى، أفترض حُسن الظن فى الدكتور العريان، فيما يتصل بدعوته هذه، ولا أظن أن وراءها مؤامرة كبيرة من نوع ما قيل على ألسنة كثيرين ممن تناولوها بالنقد والمناقشة، وأظن كذلك، وبعض الظن ليس إثماً، أن وراء كلامه أسباباً إنسانية تسامحية مجردة ترى أن هؤلاء اليهود، الذين يعنيهم، إنما هم مصريون فى الأصل، ومن حقهم، بالتالى، أن يعودوا إلى وطنهم الأم.
كون أن بعضهم يحمل الجنسية الإسرائيلية، وكون أن بعضهم الآخر يريد تعويضات عما لحق به، وبأملاكه، مسألة يمكن عند نقل الفكرة إلى حيز التنفيذ أن توضع لها ضوابط، ومعايير تحكمها جيداً، ولا يمكن أن تبقى سائبة هكذا، ويجب ألا ننسى هنا أن اليونانيين الذين عاشوا طويلاً فى الإسكندرية، قبل ثورة يوليو 52، قد عادوا إلى بلدهم، ويعيشون فيه الآن، يشار طول الوقت إليهم على أنهم «اليونان المصريون» وكذلك الطليان الذين عاشوا فى المدينة نفسها وفى الوقت ذاته!
باختصار، أعتقد أن الدكتور العريان، وقد أكون على خطأ، كان متسامحاً فى الأساس، وإنسانياً، بالدرجة الأولى، وهو يطلق تلك الدعوة.. وأعتقد أيضاً، أن النظر إلى كلامه على أنه جزء من مؤامرة كبيرة فيما يخص مستقبل الفلسطينيين، فيه ظلم كبير للرجل.. ولو صح تخمينى، حول حقيقة دوافعه، وكيف أنها تسامحية إنسانية خالصة، فلن يكون هناك معنى لما ثار من صخب حوله، وحولها كدعوة، إلا أن التسامح قد غادرنا، وهاجر من بيننا، ولذلك بدت الدعوة على هذا القدر من الغرابة!
نقلاً عن جريدة "المصري اليوم"