توقيت القاهرة المحلي 23:40:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

رائحة جمال البنا

  مصر اليوم -

رائحة جمال البنا

سليمان جودة

كان الشاعر القديم يقول - ما معناه - إن المرء إذا تجاوز الثمانين من عمره فإنه يسأم الحياة، ويمل منها، ولا أحد يعرف لماذا كانت الثمانين، تحديداً، هى حد السأم والملل عنده، ولم تكن التسعين - مثلاً - أو حتى السبعين، ولكن هذا ما قال به على كل حال! ولأمر ما تذكرت ما كان قد قال به شاعرنا، حين قرأت أمس خبر رحيل المفكر جمال البنا، الشقيق الأصغر لحسن البنا، الذى كان قد أسس جماعة الإخوان عام 1928. رحل «البنا الصغير» - إذا جاز التعبير - عن 93 عاماً، وبمقاييس الشاعر إياه، فإن المفترض أن يكون الراحل الكبير قد ملّ الدنيا، منذ 13 عاماً، وأن يكون قد عاش هذه الأعوام الزيادة بيننا، وهو يتمنى الرحيل، وينتظره، غير أن واقع الحال يقول إنه لم يكن إلى آخر لحظة فى حياته، يسمح لشعور الملل أو السأم أن يتسرب إلى حياته، وكان إلى آخر نفس، يعمل بكل طاقته، على أن يكون للعقل مكان فى حياة الناس، وهو هدف لم يكن يغيب عن عينيه دقيقة واحدة، وإذا لم يكن قد تحقق هدفه فى وجوده، فى دنيانا، فسوف يأذن له الله بأن يتحقق كاملاً، ذات يوم، حين يأتى جيل آخر يقرأ. ولسبب لا أعرفه، كنت أجد علاقة من نوع ما بين جمال البنا والإمام أبى حنيفة، الذى كان أول الأئمة الأربعة الكبار، مجيئاً إلى الدنيا، وأولهم أيضاً رحيلاً عنها، وقد كنت أبحث طول الوقت عن الشىء الذى يجعلنى أربط بين الاثنين فى سياق واحد، فلا أكاد أجد! وربما - أقول ربما - يكون إيمان أبى حنيفة المطلق بمبدأ «القياس» فى الفكر الإسلامى هو الذى ربطهما معاً عندى، لأن هذا المبدأ لم يكن يعنى شيئاً، سوى الحرص على استخدام العقل، وتقديمه على كل ما سواه، وكان أبوحنيفة يقول بأن القياس عنده يعنى، أول ما يعنى، قياس «شىء مسكوت عنه» على آخر «منطوق به»! ولابد أن عملية من هذا النوع، حين تتم، فى أيام أول الأئمة الأربعة، أو فى أيامنا هذه، فإنها تفسح المجال الأوسع للعقل، بحيث يكون هو الحاكم لأمور الدين والدنيا معاً، ويكون هو السيد، ولا سيد غيره! وعندما كان الراحل الكريم يثير الجدل مراراً بسبب آراء له كان يبديها، فإننى كنت أحس بأنه لم يكن يقصد هذه الآراء المثيرة للجدل، فى حد ذاتها، بقدر ما كان يريد تحريك العقل فى رؤوسنا، فيكون للحياة معنى، وطعم، وهدف، وغاية، بدلاً من هذا الموات الذى تلحظه فى كل اتجاه تتلفت إليه! وإذا كان الإمام الراحل محمد عبده قد أحدث شيئاً مماثلاً، فى بدايات القرن الماضى، قبل أن يرحل عام 1905، حين كان يقول بأن العقل إذا تصادم مع النص فإن الأسبقية تكون للعقل، لأن الله تعالى أنزل نصوصه لتخاطب العقل فينا، فإن «البنا»، من جانبه، كان فى بدايات القرن الحالى، وما قبل ذلك، يحاول قدر إمكانه إحياء قيم الإمام محمد عبده، بين المصريين خصوصاً، والمسلمين عموماً، وكان يجد مقاومة كبيرة فيما يفعله، ولم يكن فيما يبدو يأبه لها، ولا يهتم، مؤمناً عن يقين بأنه لن يبقى فى نهاية الأمر إلا ما ينفع خلق الله من البشر، ولن يصح، فى غاية المطاف، إلا الصحيح. وحين تعرف أن آخر الأئمة الأربعة، الإمام أحمد بن حنبل، قد غادر الدنيا عام 241 هجرية، وأننا الآن فى عام 1434، تكتشف أننا عشنا ما يقرب من 1200 عام بلا إمام حقيقى، يعظم من مكانة العقل فينا، ويأخذه من رؤوسنا، ليجعله حياً يتحرك على الأرض، عشنا قروناً بلا إمام من هذا الصنف، اللهم إلا محاولة عابرة من محمد عبده، هنا، أو من سيد قطب، هناك، رغم أن الأخير كان وهو يجتهد، إنما يفعل ذلك ليدين الناس فى الغالب، بدلاً من أن يضىء لهم طريقاً، أو يفتح لهم سبيلاً! وسوف يأتى يوم يذكر فيه كثيرون للدكتور أحمد بهجت، صاحب قنوات دريم، أنه كان صاحب فضل، حين أتاح على قنواته مساحة واسعة للرجل، ليخاطب مواطنينا بما يجب أن يخاطبهم به رجل مثله، وليس بما يحب أغلبنا أن يسمع ويرى، ولابد أن هناك فارقاً هائلاً بالطبع بين ما يجب أن تسمعه، كمواطن، عن شأن العقل فى ديننا السمح، وبين ما تحب أن تسمع! وبمثل ما تكفلت «دريم» بالكلمة المرئية، من فم الرجل، بمثل ما كانت «المصرى اليوم» تتكفل بالكلمة المكتوبة، تخرج من بين أصابعه، فى كل أسبوع، وسوف تتم هذه الصحيفة جميلها، لو أنها داومت على تقديم كتاباته للقراء أسبوعياً، وفى موعدها الثابت، فهى كتابات باقية، وفضلاً عن ذلك فإنها سوف تدوم طازجة! عاش محمد عبده، مجدداً، وناشراً لرائحة الأئمة الأربعة العظام، بين المصريين فى بدايات قرن مضى، وقد كانت حياة جمال البنا بمثابة إعادة بث لتلك الرائحة بيننا، وسوف تتكفل كتاباته بإكمال المهمة، إلى أن يعوضنا الله عنه فيبعث فينا رجلاً آخر، يجدد لنا أمور ديننا نقلاً عن جريدة "المصري اليوم"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رائحة جمال البنا رائحة جمال البنا



GMT 19:45 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

‫تكريم مصطفى الفقى‬

GMT 09:09 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صوت الذهب... وعقود الأدب

GMT 09:05 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

GMT 09:04 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 09:03 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

عن تكريم الأستاذ الغُنيم خواطر أخرى

GMT 09:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجائزة الكبرى المأمولة

GMT 09:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تنظيم «الإخوان» ومعادلة «الحرية أو الطوفان»

GMT 08:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لأميركا وجهان... وهذا وجهها المضيء

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 07:44 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

البنك المركزي المصري يعلن تراجع معدل التضخم السنوي

GMT 22:26 2018 السبت ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات Xbox One X تتجاوز 80 ألف فى أول أسبوع

GMT 14:26 2016 الجمعة ,16 كانون الأول / ديسمبر

أبطال " السبع بنات " ينتهون من تصوير أدوارهم في المسلسل

GMT 18:22 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن "هوندا سبورت فيجن GT" الجديدة بتصميم مثير

GMT 05:34 2016 الثلاثاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

إيفانكا ترامب تحتفل بعيد الميلاد في هاواي

GMT 09:27 2024 الخميس ,09 أيار / مايو

أهم صيحات فساتين السهرة المثالية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon