سليمان جودة
كنت قد كتبت فى هذا المكان، قبل نحو أسبوعين، أصف المحاكمات التى تجرى لرموز النظام السابق، بأنها ليست أبداً الشىء الذى ينبغى أن ننشغل به فيما بعد ثورة 25 يناير، ولم يكن رأيى راجعاً إلى أنها كمحاكمات لرموز نظام حكم انطوت صفحته، ليست مهمة بقدر ما كان عائداً إلى أن هناك ما هو أهم منها بكثير فى الاتجاه ذاته، إذا أردنا للثورة أن تنجح، وأن تحقق أهدافها، وأن يكون لقيامها عائد فى حياة الناس!
وكان هذا الشىء الأهم، الذى مازلت أدعو إليه بقوة، هو أن تكون المحاكمات لثلاثة عصور سبقت، ابتداء من عبدالناصر، مروراً بالسادات، وانتهاء بمبارك، ليس بهدف إدانة أحد منهم، أو حتى إنصافه، فالتاريخ سوف يتكفل وحده بذلك، وإنما بقصد أن نعرف ماذا جرى هناك على امتداد 60 عاماً تقريباً، فنتجنب السيئ منه، ونستفيد منه بعدم تكراره، أو الوقوع فيه من جديد، ثم البناء على الجيد منه أيضاً، وبذلك تقوم حياتنا على فكرة التراكم، مرحلة بعد مرحلة، بدلاً من أن نظل نبدأ فى كل مرة، من عند نقطة الصفر، ونمحو كل ما مضى دون تفرقة فيه بين الخير والشر.
قلت هذا، وأسهبت فى شرحه فى حينه وتبين لى، كما لابد أنه قد تبين لغيرى، أننا لانزال مصممين على الانشغال بمحاكمات الأفراد، التى لن تجدى شيئاًَ، لا لشىء إلا لأنها انشغال بالتفاصيل فى الموضوع، دون الأصل، ودون الجوهر، ودون المضمون!
ولابد أن كل غيور بيننا على صالح هذا الوطن سوف يظل يراهن على أن يكون للعقلاء موطئ قدم فى الحكم، وأن يدرك هؤلاء العقلاء أن دعوة كهذه ليس الهدف منها أبداً السعى إلى تبرئة رموز ذلك النظام، وإنما القصد هو أن تكون الغايات التى نعمل عليها بوزن ثورة 25 يناير، ووزن أهدافها، وعظمة شعاراتها.
وعندما التقيت، يوم الجمعة الماضى، برئيس المجلس الوطنى المغربى لحقوق الإنسان، فى العاصمة الرباط، فرحت للغاية، ثم حزنت فى اللحظة نفسها، وكان مبعث الفرح أنى كنت أريد أن أعرف، ويعرف معى القارئ بالضرورة، ماذا يفعل هذا المجلس هناك، لنستوحى منه ما قد ينفعنا، وكان مرجع الحزن أنى اكتشفت أنهم سبقوا مبكراً إلى الأخذ بما كنت قد ناديت به، فكانت المهمة الأولى، وتكاد تكون الوحيدة للمجلس، هى إجراء مراجعة شاملة على مستوى حقوق الإنسان المغربى، فى الفترة منذ استقلال البلاد عام 1956 إلى عام 1999 حين رحل الملك الحسن الثانى.
عكف المجلس الذى تغير اسمه من «الاستشارى لحقوق الإنسان» إلى «الوطنى لحقوق الإنسان» فى مارس 2011 على مراجعة ملف حقوق الإنسان، عندهم طوال السنوات الخمس التى حكمها الملك محمد الخامس، من عام 56 إلى 61 ثم طوال عهد الحسن الثانى كاملاً، ولم يكن القصد ـ كما سمعت من رئيس المجلس ـ إدانة محمد الخامس، ولا الانتقام من ذكرى الحسن الثانى، ولا ملاحقتهما فى قبريهما، بقدر ما كان القصد هو عدم السماح تحت أى عذر بتكرار الانتهاكات التى وقعت على مدى الفترتين، بحيث يوضع خط فاصل بين ما قد يكون وقع هناك، من انتهاك لحق أى إنسان وبين عقد آخر بدأ يوم تولى الملك محمد السادس الحكم بعد والده.
وقد كان هناك جانب مهم، فى هذه المراجعة، وهو صرف تعويض من الدولة لكل من يثبت أنه قد جرى انتهاك حق من حقوقه كإنسان، أثناء اعتقاله أو حبسه أو سجنه فى قضايا سياسية.. ليس هذا فقط، وإنما راحت الدولة تقدم اعتذاراً صريحاً لكل مواطن مغربى يتأكد خبراء المجلس من أنه قد لحق به ضرر فيما يتصل بحقوقه كإنسان دون وجه حق.
ولم تكن قيمة التعويض واحدة فى كل الحالات، كما حدث فى جنوب أفريقيا بعد مجىء «مانديلا» مثلاً، ولكنها تفاوتت حسب كل حالة وحسب حجم الأذى الذى لحق بصاحب الحالة.
فعلها المغرب وذهب من أقصر طريق إلى مراجعة ما كان حتى لا يعيد الحاضر إنتاج الماضى بصورة مختلفة.. أما نحن، فإننا مشغولون عن آخرنا بهدايا الأهرام.
نقلاً عن جريدة "المصري اليوم"