سليمان جودة
الذين أزالوا رأس تمثال طه حسين من فوق قاعدته الهرمية، فى محافظة المنيا، طعنوا كل مصرى فى صميم قلبه، وأهالوا التراب على ذكرى رجل من المفترض أن يكون له تمثال فى كل بيت، وليس فى مسقط رأسه فقط.
والحقيقة أن الذين ارتكبوا هذه الجريمة، فى حق رمز مضىء من رموزنا العظيمة، إنما هم ناس أعماهم الجهل، وانعدام الأفق، وألقى التعصب الأعمى غشاوة على أعينهم، ففقدوا القدرة على الرؤية والتمييز!
وحين تتطلع حولك، ثم تتابع ما يجرى، وتحاول ربط بعضه ببعض، سوف تكتشف أن جريمة المنيا ليست الأولى من نوعها، وأن ما سبقها قد أغرى بها، لأنه كان يمهد لها، وأنها إذا كانت قد استهدفت تجريد عميد الأدب العربى، طه حسين، من القيمة التى كان ولايزال يمثلها لكل صاحب عقل وضمير، فإن استهدافاً من النوع ذاته جرى ويجرى، على مستويات كثيرة، بحيث تأتى هذه الجريمة الشنيعة متسقة مع السياق العام الذى نعيشه، وليست متناقضة معه بأى حال من الأحوال!
إن استهداف المحكمة الدستورية العليا، منذ البداية، كان فى الاتجاه نفسه، وعندما انتهى الاستهداف بإخراج العظيمة تهانى الجبالى من المحكمة، فإن ذلك فى حد ذاته كان تجريداً لـ«العليا» من مقامها، ومن قيمتها، بقدر ما كان العدوان على رأس تمثال طه حسين تجريداً لصاحبه من مقامه، ومن قيمته التى لا يجادل فيها عاقل!
وعندما تم إخراج المستشار عبدالمجيد محمود من منصب النائب العام، بالطريقة التى خرج بها، وجاء النائب العام الجديد إلى مكانه، بالطريقة التى جاء بها، لم تكن المشكلة أبداً لدى الذين رفضوا طريقة الخروج، وطريقة المجىء، فى شخص المغادر، ولا فى اسم القادم من خلفه، وإنما كان الرفض لأن المسألة فى إجمالها كانت تنطوى أول ما تنطوى على تجريد المنصب الرفيع من المقام، ومن القيمة، بصرف النظر تماماً، عن اسم شاغله، أو شخص الجالس على الكرسى فيه!
وعندما يترك رئيس الحكومة تلال المشاكل، التى هى بحجم الجبال فى البلد، ثم يتكلم فى أمور الرضاعة، فإن الحكاية لا تختلف مطلقاً عن حكاية رأس تمثال عميد الأدب، فكلتاهما تجريد للشىء من مقامه، ومن قيمته، وإلا فهل تتصور مقاماً، أو قيمة، لمنصب رئيس الحكومة، إذا كان الرجل الذى يملأ المنصب، أو المفترض أنه يملؤه، يتجاهل كل ما حوله، ويفقد الإحساس به، ويتحدث، بالتالى، فى شؤون الرضاعة؟!
وعندما تستبعد «الأهرام» أسماء بوزن أحمد عبدالمعطى حجازى، وعبدالمنعم سعيد - مثلاً - من بين كُتابها، فليس لإجراء من هذه النوعية معنى، إلا أنه تجريد للمؤسسة العريقة من المقام، ومن القيمة، وإلا أيضاً فإن لنا هنا أن نتذكر كيف أن محمد حسنين هيكل كان قد تعاقد فى أيامه مع توفيق الحكيم، ليأتى إلى الأهرام، لا ليكتب، ولا ليفعل أى شىء، وإنما ليكون موجوداً فى الأهرام، وفقط، ففى وجود مثله قيمة للمكان، ومقام للمؤسسة وإضافة لها.. مجرد وجوده لا أكثر ولا أقل.
وعندما يختفى اسم إبراهيم سعدة من أخبار اليوم، دون مقدمات، ودون تفسير للقارئ، ودون إحم ولا دستور، فإن فى إجراء كهذا تجريداً لأخبار اليوم من المقام، ومن القيمة التى تمثلها، لأن إبراهيم سعدة فى النهاية ليس مجرد رئيس مجلس إدارة سابقا، أو رئيس تحرير أسبق، وإنما هو صاحب قلم، لا صاحب وظيفة، وهو الرجل الذى كان إذا كتب صفحة كاملة فى الجريدة ظل القارئ يلهث وراءه، حتى يبلغ نهايتها، وهو أيضاً الكاتب الذى كان يهز البلد، إذا كتب مقال «آخر عمود» الشهير!
هذا كله يبدو طبيعياً جداً فى سياقه، وفى أجوائه.. لماذا؟!.. لأن أداء «مرسى» شخصياً بتجاهل طلبات الناس يظل تجريداً للرئاسة، من المقام، ومن القيمة، كما فعلها مبارك عندما قال «خليهم يتسلوا»!
نقلاً عن جريدة "المصري اليوم"