سليمان جودة
عندما سقط الرئيس زين العابدين بن علي في منتصف يناير (كانون الثاني) 2011، فإن كثيرا من الرؤساء العرب راحوا يتحسسون رؤوسهم. وفي اللحظة التي تخلى فيها الرئيس السابق مبارك، عن الحكم، في 11 فبراير (شباط) من العام نفسه، بدأوا يتأكدون من أن كراسيهم لا تزال تحتهم! وحين انتقلت المسألة من تونس العاصمة، ومن القاهرة إلى طرابلس الغرب في ليبيا، وصنعاء ودمشق، فإن كثيرا من الحكومات العربية قد أحست بأن الحكاية جد، وأنها خطيرة، وأنها تدعو إلى التفكير فيها بعمق، وإلا فإن الأمر يمكن أن يمضي تباعا هكذا، لنجد أنفسنا في النهاية أمام مشهد تسقط فيه هذه الحكومات في عواصمها، واحدة وراء الأخرى، وكأنها حبات مسبحة انفرط خيطها!
وحين كنت في المغرب، الأسبوع الماضي، لعدة أيام، فإنني رأيت عن قرب، كيف أن الدولة هناك قد استوعبت مبكرا، درس زلزال الربيع العربي، وهو لا يزال في بداياته، واستطاعت أن تتحكم في تداعياته عندها، واستقبلته بصدر مفتوح، وبهدوء، بحيث يمكن القول الآن، إن الربيع الذي كان صاخبا، ولا يزال، في تونس ومصر، وليبيا، واليمن، وسوريا، قد ذهب إلى الرباط، من دون أن تشتعل فيها ثورة، ودون أن تهتز جدرانها بالهتافات والمظاهرات والاحتجاجات التي تتردد أصداؤها المدوية في هذه الدول الخمس!
وقد كانت البداية في 20 فبراير من «عام الثورات» إذا صح أن نطلق هذا الاسم على عام 2011، ففي ذلك التاريخ نشأت في المغرب، بكل أقاليمه، ومدنه الكبرى، حركة سياسية أخذت اسمها من التاريخ الذي انطلقت فيه، وعرفها المغاربة، ولا يزالون، بحركة «20 فبراير». وقد كانت، من حيث طبيعتها، وأهدافها، ومطالبها، وشعاراتها، أقرب ما تكون إلى حركة «كفاية» التي كانت قد نشأت في القاهرة، قبل تخلي الرئيس السابق عن الحكم بسنوات.
وبقدر ما إن الرئيس السابق حسني مبارك لم يستوعب - كما يجب - أهداف «كفاية» في حينها، أدرك محمد السادس، ملك المغرب، سريعا أن حركة «20 فبراير»، لم تنشأ في بلاده، من فراغ، ولم تخرج إلى العلن، لتبدد وقتها، أو وقت المغاربة، ولم تكن في الإجمال نوعا من الترف الذي يمكن النظر إليه، على أنه شيء ثانوي!
لا.. لم تكن «20 فبراير» كذلك أبدا، وإنما كانت قد خرجت إلى الشوارع والميادين، في أعداد رمزية، بينما عيناها، كحركة سياسية إصلاحية، على العواصم الخمس تحديدا، التي عرفت الربيع العربي، بصخبه وصياحه ومطالبه، فضلا بالطبع عن مصابيه وشهدائه وضحاياه.
ولم تكن «20 فبراير» تريد فيما يبدو، أن تعود إلى بيتها صفر اليدين، ولم تكن فيما يبدو أيضا، تنوي أن تفاصل أو تساوم حول ما تريده وتسعى إليه!
ولذلك، فإن الملك محمد السادس، قد التقط الإشارة سريعا، وقرر كما ينطق واقع الحال هناك الآن، أن يكون للمغرب ربيع عربي خاص، وأن يكون الأمر بيده هو، كملك مسؤول عن البلاد، لا بيد غيره، وكان قراره السريع بتشكيل لجنة من 19 عضوا لتعديل دستور البلاد، بما يستوعب الحركة السياسية الناشئة، وبما يرضيها ويتلاقى مع طموحها وطموح أبناء المغرب بوجه عام.
ولو أنك أمسكت في يدك بنسخة من الدستور المغربي الذي نتج عن عمل دام أربعة أشهر لتلك اللجنة، ثم قارنت بينها وبين نسخة الدستور قبل تعديله، فسوف ترى كيف أنه لا علاقة تقريبا بين ما كان قبل الأشهر الأربعة، وبين ما هو كائن في اللحظة الراهنة!
يكفي أن تعرف، مثلا، أن الدستور الجديد الذي اشتهر عندهم بدستور 2011، قد راح يفرق بشكل لا يحتمل اللبس، بين دور الملك الديني، باعتباره أميرا للمؤمنين، وبين دور سياسي كان قد تقرر له تاريخيا، ثم تقلص تماما بعد التعديل لصالح الحكومة صاحبة الأغلبية في البرلمان.
هذه واحدة.. وأما الثانية، فلم تكن أقل أهمية لأن دستور 2011 قد خرج إلى النور، وبين صفحاته ومواده ما ينص على أن الدور التشريعي للملك وقد كان دورا هائلا، طول أيام الملك محمد الخامس، والملك الحسن الثاني، قد آن له أن يصير تاريخا، يرويه المغاربة لأبنائهم فيما بعد، لأن التشريع بكامله قد انتقل إلى البرلمان المنتخب من المواطنين!
ثم كانت الثالثة، أن الحسن الثاني، علي سبيل المثال، كان من حقه تعيين 1200 شخص، في 1200 منصب، على امتداد الدولة المغربية، لدرجة أن عمداء الكليات الجامعية، كان يصدر بتعيينهم قرار من الملك شخصيا، فإذا بالدستور المعدل، يصفي هذه المناصب كلها على 37 منصبا فقط، هي التي من حق الملك الحالي، أن يملأها بشاغليها.. أما بقية الـ1200 منصب فقد ذهبت كلها إلى رئيس الحكومة، بضوابط محددة وواضحة، حتى لا يتحول رئيس الحكومة إلى ملك من نوع آخر!
خطوات ثلاث كهذه جعلت المغرب، كدولة، يعرف الربيع العربي ومذاقه الحقيقي، دون أن يمر بقلاقله، ومشاكله، وصعوباته، ومخاضاته العسيرة، ودون أن يدفع، وهذا هو الأهم، ثمنا له، مغموسا في الدم، على نحو ما جرى، وما يزال يجري في عواصمنا الخمس على وجه التحديد!
ولأن الإنسان طموح بطبعه، فإن المغاربة يرون فيما تم من إصلاح، رغم حجمه غير المسبوق، وأهميته الظاهرة لكل ذي بصر، مجرد بداية لها بالضرورة ما بعدها، وهو الشيء الذي يبعث عندهم حقا على الأمل!
نقلاً عن جريدة "الشرق الأوسط"