سليمان جودة
الحكاية بدأت منتصف هذا الشهر، عندما اكتشف عدد من أبناء مدينة إدلب السورية، أن مجهولين أنزلوا تمثال أبي العلاء المعري من فوق قاعدته في أحد ميادين المدينة، ثم قطعوا رأسه، وشوهوا الكتابات الموجودة على صفحة القاعدة، والتي تقول إن صاحب التمثال شاعر، وأديب، وفيلسوف سوري، وإنه مات عام 1057 ميلادية.
لم يتعرف أحد حتى الآن، على حقيقة شخصية الذين فعلوا ما فعلوه بالتمثال، ولكن قيل إن الذين عبثوا به، ينتمون إلى جماعة معارضة في المدينة، وأن أفرادا من هذه الجماعة، حاولوا العام الماضي، تحطيم التمثال، اعتقادا منهم أنه من بين أجداد الرئيس السوري بشار الأسد، ولكن الأهالي منعوهم في حينه، إلى أن استيقظت المدينة، قبل أسبوعين، على تمثالها الشهير، وقد أصبح مسخا، بعد أن عبث به، وبالكتابات تحته، الذين يعتقدون أن صاحبه كان زنديقا، وأنه لا يجوز بالتالي، أن يُقام له تمثال على الأرض السورية!
بعدها بأسبوع، وربما أقل، لقي تمثال عميد الأدب العربي، طه حسين، المصير نفسه في أحد ميادين محافظة المنيا، جنوب القاهرة، وهي المحافظة التي أنجبت العميد، وفيها نشأ، وكان التمثال تعبيرا عن نوع من الامتنان من أبناء المحافظة، تجاه واحد من نجبائها، بل من نجباء العرب جميعا، إلا أن الذين قطعوا رأس تمثاله، يبدو أن لهم رأيا آخر، ويبدو أنهم سمعوا هم الآخرون، أن طه حسين كان زنديقا، وأنه لا يحق له أن يجري تكريمه بتمثال في مسقط رأسه، فمثلوا برأسه، إذا جاز أن يوصف ما حدث بأنه تمثيل برأس تمثال عميد الأدب العربي!
المفارقة هنا، أن أول كتاب لطه حسين، كان موضوعه عن أبي العلاء، وبه نال درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية عام 1914 وكان له، بعد ذلك، أكثر من كتاب عن فيلسوف وأديب الشام، الذي لم يعجب متأسلمي العصر!
ولو علم الذين ارتكبوا تلك الجريمة، في حق الفيلسوف المصري، أنه عاش يرفض أكل اللحوم، ليس لأنه لم يكن يحبها، وإنما رحمة بالحيوان، لأدركوا أن إنسانا بهذه الروح، تجاه الحيوان، فضلا عن روحه تجاه الإنسان طبعا، لا يمكن أن يكون زنديقا، ويستحيل أن يكون كافرا بخالق الحيوان والإنسان، وإلا، فكيف يكون بهذه الصفة فيما يخص مدى إيمانه، وهو يأبى ذبح حيوان، حتى ولو كان هذا الحيوان المذبوح، سوف يتحول إلى وجبة شهية على مائدته؟!
بل إننا في مراحل الدراسة الأولى، كنا ندرس قصيدة شهيرة لأبي العلاء، وفيها كان يطلب من الذين يدبون فوق الأرض، أن يتمهلوا في خطواتهم، وأن يتحسبوا لكل خطوة جديدة موضعها، خشية أن يكون التراب الذي سوف يدوس عليه أحدهم، إنما هو رفات لأناس ماتوا من سنين طويلة:
خفف الوطء ما أظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد
إذا كانت هذه هي مشاعر «المعري» تجاه الحيوان، مرة، وإزاء الإنسان مرات، فهل يمكن أن يكون هذا هو جزاءه، من الذين يفتشون في نوايا الناس، بعد رحيله بنحو ألف عام تقريبا؟! وهل الشاعر الذي كان يملك كل هذه الرأفة في وجدانه، للحيوان والإنسان سواء بسواء، يمكن أن يكون صاحب قلب غير مؤمن، أو يكون قد حمل عقلا في رأسه لا يؤمن بخالق الكون.. وحتى لو افترضنا افتراضا أنه كان زنديقا، هل يقع حسابه على الذين هشموا تمثاله، أم يقع على الله سبحانه وتعالي؟!
ولم تتوقف المسألة عند هذا الحد، وإنما بدا الأمر، وكأنه موجة من ضيق الأفق تضرب دولا في المنطقة، وتسيء إلى رموز عاش أصحابها لإسعاد الناس، وإدخال البهجة على قلوبهم.. إذ ما كادت تمر أيام حتى اكتشف أبناء مدينة المنصورة، في محافظة الدقهلية، شمال القاهرة، أن مجهولين أيضا قد وضعوا نقابا على رأس تمثال لأم كلثوم، يزدان به واحد من ميادين المدينة التي اشتهرت بأنها عروس الدلتا!
صحيح أن شباب الثورة قد جاءوا بعدها، ونزعوا النقاب السخيف إياه، ثم لفوا تمثال سيدة الغناء العربي بعلم مصر، ووضعوا فوق العلم صورة لجمال عبد الناصر، وأعادوا البهاء إلى التمثال، ولكن الأصح من هذا كله، أن ما لحق بتمثال أم كلثوم، قد أثار استياء بين المصريين، وسخطا بلا حدود، خصوصا أن الإساءة إليها، بهذه الطريقة الفجة، قد جاءت مصاحبة لذكرى رحيلها التي تحل في فبراير (شباط) من كل عام، وهو شهر يحلو لمصريين كثيرين فيه، ولعرب أكثر، أن يستعيدوا تلك الأيام الجميلة التي عاشت فيها امرأة أسعدت، ولا تزال تسعد الملايين، بفنها الخالد.
وقد كان لتونس نصيب من هذا السخط، عندما استيقظت السيدة بسمة بلعيد، أرملة السياسي البارز شكري بلعيد، الذي جرى اغتياله في تونس العاصمة يوم 6 فبراير الحالي، لتكتشف أن ما كان قد أصاب تمثال أبي العلاء المعري في سوريا، وتمثال طه حسين في مصر، قد أدرك تمثال زوجها الراحل، الذي كان محبوه قد أقاموه في المكان ذاته، الذي سقط فيه الرجل شهيد أفكاره ورؤاه!
بقي أن نقول، إن شكري بلعيد كان حريصا في حياته، على تحفيظ القرآن لابنتيه، وكان يردد دائما أنه حفظ القرآن عن والده، وأن هذا هو الذي جعله خطيبا يلفت الانتباه إذا وقف يتكلم في جمع من الناس!
حصل هذا كله، في أجواء «الربيع العربي» الذي يُقال إن العرب إجمالا يعيشون أيامه، وإن الدول الثلاث، مصر، وتونس، وسوريا، تعيشه وتعايشه بشكل خاص.. فإذا كان هذا هو «الربيع» فما هو، يا رب، شكل الخريف؟!
نقلاً عن جريدة "الشرق الأوسط"