سليمان جودة
كتبت فى هذا المكان، صباح الأحد، أرجو الأستاذ هيكل ألا يرفع أنقاض بيته ومكتبته فى «برقاش» بالجيزة، إلا بعد أن يدعو الكاميرات من أركان الأرض لترى، ثم يرى العالم كله من خلالها، ماذا فعل همج الإخوان فى البيت، وفى المكتبة، وكيف عبثوا بمحتوياتهما، وأحرقوهما، ثم دمروا المكان تماماً، وكأنهم تتار بعثهم الله فى القرن الحادى والعشرين!
كتبت هذا ورجوت الرجل أن يفعله، لأسباب عدة، من بينها - مثلاً - أن وزن اسم هيكل فى عواصم العالم الكبرى كفيل وحده بأن يجعل الجريمة التى جرت، جريمتين، ثم إن هناك فارقاً كبيراً بين أن تقول لملايين البشر من أصحاب الضمائر، إن الإخوان أحرقوا بيت ومكتبة هيكل، وبين أن تنقل خرائب المكان لهم، بالصورة، والصورة وحدها، ليكون كل صاحب ضمير حى فى أى عاصمة، على يقين بعدها من أن هؤلاء ليسوا أهلاً لأى ذرة تعاطف معهم، فى أى مكان.
كتبت، ورجوت، بل عاتبته على أنه تأخر فى الإقدام على خطوة من هذا النوع، مع إدراكه الكامل لحجم تأثيرها حين يقوم بها، فبدا الأستاذ هيكل شاكراً، حين قرأ سطور العتاب، ثم طلب أن يرانى، وذهبت لأسمع منه أنه مع تفهمه لدوافعى، ومع امتنانه لمشاعرى، ومع إقراره بأن مؤتمراً صحفياً عالمياً من جانبه، بين أنقاض البيت والمكتبة، يمكن أن يكون له مفعول السحر بين أصحاب الضمائر الحية فى العالم، إلا أنه، لأسباب شرحها لى، يفضل أن يتمهل قليلاً، وأن يترك كل شىء محترق هناك، على حاله، الآن، وإلى حين.
أدهشتنى للغاية قدرته على كبح عواطفه تجاه بيته المحترق، ومكتبته المدمرة، ولكن تقديره كان، ولايزال، أن مزرعته فى برقاش، وفى القلب منها البيت والمكتبة، ليست مجرد مكان يذهب إليه ويعود، من حين إلى حين، وإنما هى «روح» حقيقية تصطخب بالحياة، ولا تنفصل بمعنى من المعانى، عن روحه هو، ولا عن جسده هو، ولذلك، فبمثل ما كان حريصاً على أن يحافظ على هذه الروح فى أيام عزها، وأن يصونها من كل عين، فإنه لا يريد، ولا يطاوعه قلبه أن يعريها أمام الدنيا، فى ساعات جرحها، ولحظات ألمها، ويرغب بصدق فى أن يحفظها مصونة دائماً، كما كانت، منذ أن تعانقت روحه مع روحها.
إنه لايزال يذكر جيداً كيف كان منظر عبدالناصر وهو يتكئ تحت تلك الشجرة من أشجار المزرعة، ذات يوم، وكيف كان شكل السادات بدوره، وهو يستلقى على مقعد من مقاعدها المتناثرة فى المكان، وكيف كانت هيئة «جيفارا» زعيم حركة التحرر فى أمريكا اللاتينية، ورمزها، وهو يقضى فيها ليلتين عائداً من أفريقيا إلى بلاده.. وكيف.. وكيف.. ولكن ماذا يساوى هذا كله، فى تقديره، إذا كانت مصر، التى هى الأم الأعظم، تتعرض لحريق أوسع، ودمار أشمل، من جانب الجماعة الإخوانية ذاتها؟!
حزن الرجل على مكتبته شديد، لكن حزنه على بلده أشد، ولهذا فهو يجاهد من أجل أن يطوى آلامه، فتبقى فى إطاره، ويفضل أن ينشغل بوطنه، قبل بيته، فالوطن الذى لا يعرف الإخوان معناه، هو الأبقى له، ثم لنا.
نقلاً عن "المصري اليوم"