سليمان جودة
تنشر صحيفة «الشرق الأوسط» فى لندن، هذه الأيام، أوراقاً سرية أفرجت عنها الحكومة البريطانية مع مطلع العام الجديد، بعد أن مضت على سريتها 30 عاماً كاملة، وفيها نقرأ ما يمكن جداً أن يكون موجعاً ومفيداً لنا ولحكومتنا التى عليها تحديداً أن ترى كيف تتصرف الحكومات المسؤولة تجاه شعوبها عندما تكون فى موقع المسؤولية.
فالأوراق تروى أنه حدث فى 17 إبريل 1984 أن توجهت مجموعة من المعارضين لنظام العقيد القذافى وقتها إلى مبنى السفارة الليبية فى لندن، وأعلنوا احتجاجهم على ما يفعله القذافى فى بلدهم.
ويبدو أن حركة المعارضين حول السفارة وقتها قد تجاوزت ما هو مسموح به من الجانب الليبى أو أنها لم تأت على هواه، فأطلق أحد أفراد طاقم السفارة الرصاص الحى عليهم من داخل السفارة، وأصاب عدداً منهم، فسقط مصابون فى عرض الشارع!
غير أن الأهم من ذلك أن الرصاص أصاب ضابطة شرطة إنجليزية فقتلها فى الحال، ولم يكن بوسع مارجريت تاتشر، رئيسة الحكومة الإنجليزية، فى أثناء الحادث إلا أن تتصرف بما يحمى حق مواطنة إنجليزية سقطت غارقة فى دمائها وهى تؤدى عملها!
وقيل إنه قد صدرت تعليمات فورية فى حينه باقتحام السفارة من البوليس الإنجليزى، وتفتيشها ومصادرة السلاح الموجود فى داخلها، والقبض على القاتل.
ولكن عقل «تاتشر» باعتبارها رئيسة الحكومة المسؤولة كان يعمل فى اتجاه آخر تماماً، ويفكر فيما جرى بشكل مغاير بنسبة مائة فى المائة، إذ راحت تلك السيدة تقارن بين مصلحة لا جدال فيها فى أن يعود حق الضابطة القتيل إليها، وبين مصلحة أكبر لبريطانيا كلها متمثلة فى عقود بترول بمئات ملايين الدولارات مع القذافى.
ولم تتردد رئيسة الحكومة فى الوصول إلى قرار ولا أخذت وقتاً، وإنما فى لحظة، قررت تغليب مصلحة بريطانيا العظمى على مصلحة فرد فيها وتغاضت سريعاً عن حق الضابطة الغارقة فى دمائها، ورأت بكل ما أوتيت من وعى سياسى مصلحة بلادها مجردة، فقررت أن تعلو بها ولا يعلو عليها شىء!
وبسرعة صدر قرار بالسماح للقاتل بالخروج آمناً من دار السفارة، ولم يتعرض له أحد!
ولابد أن موقفاً كهذا لا ينفصل أبداً عن موقف مماثل كان البطل فيه هو رئيس الحكومة البريطانية نفسها حالياً ديفيد كاميرون الذى جاء عليه وقت ضج فيه بتجاوزات المتظاهرين فى شوارع عاصمة بلاده، فقال ما لايزال كثيرون يأخذونه عنه، باعتباره عين الحق.. قال: «إذا تعارض حق من حقوق الإنسان مع مصلحة بلدى، ومع أمنها القومى، فلتذهب كل حقوق الإنسان إلى الجحيم».
وقد كان بالطبع يقصد أن من حق أى مواطن إنجليزى أن يتظاهر فى حرية كاملة غير أن حقه هذا إذا كان سيؤدى من خلال ممارسته إلى تعريض مصالح البلاد وأمنها لأى خطر، فلتذهب كل حقوق الإنسان أياً كانت إلى الجحيم رأساً!
وأغلب الظن أن فى القصتين: قصة تاتشر، وقصة كاميرون ـ درساً لا يمكن لحكومتنا إلا أن تتوقف أمامه، وتتعظ به، وتأخذ عنه ثم تترجمه على أحوالنا.
ذلك أنه إذا كنا سنجد أنفسنا أمام مفاضلة بين حق جماعة إخوانية همجية فى التظاهر وفى العربدة باسم التظاهر وبين مصالح عليا للبلاد، فليذهب الإخوان جميعاً إلى الدرك الأسفل من النار، لا إلى الجحيم فقط، لا لشىء إلا لأن مصر يجب فى كل الأوقات أن تعلو، ولا يعلو عليها أحد ـ إخوان، أو غير إخوان!
نقلاً عن "المصري اليوم"