سليمان جودة
لا حديث فى ألمانيا هذه الأيام، إلا عن المسكين «هونيس»، رئيس نادى بايرن ميونيخ، الذى حكم عليه القضاء بثلاث سنوات ونصف السنة سجناً، لأنه تهرب من الضرائب!
والمتابعون للرياضة يعرفون أن هذا النادى هو أعظم ناد ألمانى فى كرة القدم، وأنه يكاد يكون أعظم ناد أوروبى، وأن «هونيس» قد جلب له من البطولات الكثير جداً، ورغم ذلك فإن هذا لم يشفع له فى شىء عندما اكتشفوا تهربه من دفع ضرائب مستحقة عليه، فقادوه إلى السجن، فقدم استقالته من رئاسة النادى، وجاء رجل آخر ليتولاه من بعده!
ومنذ أسابيع، كانت إيطاليا قد جردت بيرلسكونى، رئيس وزرائها الأسبق، من عضوية مجلس الشيوخ، لأنه تهرب من الضرائب.
وفى الولايات المتحدة الأمريكية يقولون إنك يمكن أن تهرب من كل شىء، إلا من شيئين: الموت.. والضرائب!
ولا أحد يعرف كم من رؤساء النوادى عندنا، وكم من أصحاب الأعمال، تهربوا، ويتهربون من دفع حق الدولة فى أموالهم، ولكن ما نعرفه أن مثل تلك الدول التى ذكرناها لا تفعل هذا مع متهربى الضرائب، على سبيل قضاء أو تضييع الوقت، ولكنها تفعله لأن الدخل الذى يأتيها عن طريق الضرائب شىء أساسى لا يمكن الاستغناء عنه أبداً بالنسبة لها كدولة، وأنها من غير هذا الدخل تفقد معنى وجودها فى نظر أبنائها، لأنها لن تجد، عندئذ، مالاً توفر به وسيلة مواصلات آدمية للمواطنين، ولا خدمة علاجية مناسبة لكل مريض، ولا خدمة تعليمية واجبة لكل طالب فى مدرسة أو فى جامعة! وقد وصل الحال فى تلك الدول إلى الحد الذى أصبحت معه الضريبة ثقافة عامة تجرى فى دماء الناس، وإلى حد أن المتهرب من أدائها، يشعر من تلقاء نفسه بأنه ارتكب جريمة لا يمكن غفرانها، وهو بالضبط ما حدث مع رئيس بايرن ميونيخ، عندما اعترف، قبل فترة، بأنه يأسف لأنه تهرب، على أمل أن يؤدى اعترافه إلى إعفائه من الذهاب إلى الزنزانة، فخاب ظنه طبعاً!
والذين يقرأون كلام القاضى، مع رئيس النادى الألمانى الكبير، أثناء المحاكمة، سوف يلاحظون أنه راح يؤنب «هونيس» ويوبخه، ويقول له - ما معناه - إن اعترافه بالتهرب لا يغير من حقيقة الأمر شيئاً، وأنه كان أمامه من الوقت ما يتدارك خلاله ما ارتكب من جريمة فى حق كل مواطن ألمانى، ولكنه لم يفعل!
وعندما تتلفت حولك عندنا، ثم تجد أن هذا هو حال أتوبيس النقل العام، وأن هذا هو حال المستشفى، وأن هذا هو حال المدرسة، وأن هذا هو حال الخدمات العامة التى يتلقاها المواطن عموماً، فأنت أمام احتمال من اثنين: إما أن جميع رؤساء النوادى، وأصحاب الأعمال، قد أدوا ويؤدون ما عليهم من ضرائب للدولة، ثم بددت الدولة هذا العائد من جانبها، وإما أن أحداً منهم، أو أغلبهم بمعنى أدق، لا يؤدى ما عليه أن يؤديه، ومع ذلك فلم نسمع عن واحد منهم قد لقى مصير «هونيس» مرة، أو «بيرلسكونى» مرات!
لا نقول هذا بالطبع عن رغبة فى ملاحقة خلق الله من رؤساء النوادى أو أصحاب الأعمال دون وجه حق، ولكن نقوله لأن للدولة حقاً يجب أن تحصل عليه، ولأن للمواطن حقاً فى خدمات عامة ملائمة يتعين أن يتلقاها بما يليق به كبنى آدم! وبما أنه لا الدولة تشتكى من تهرب أحد، ولا أحد يصادفه مصير «هونيس» أو «بيرلسكونى»، فإن هذا يجعلنا نتذكر حكاية الإمام الشافعى، حين اختفى مصحفه وهو جالس مع مريديه، فلما راح يتطلع فى وجوه تلاميذه، وجدهم جميعاً يبكون تأثراً بما كان يقوله فى درسه لهم، فقال عن حق: كلكم يبكى.. فمَنْ سرق المصحف؟!
نقلاً عن "المصري اليوم"