يرحم الله محمود جبريل، رئيس وزراء ليبيا الأسبق، الذي اختطفه طائر الوباء في أول أيام انتشاره، ولو عاش بيننا إلى اليوم لكان قد رأى أن تحذيره المبكر من محاولات التسلل نحو مصر عن طريق ليبيا، كان تحذيراً في محله وكان تقديراً في مكانه!
وكان الرجل قد قال في حوار صحافي منشور على حلقات، إن هناك مَنْ لا يزال يتصور أن في إمكانه: استعادة مصر عن طريق ليببا!
كان ذلك في أعقاب سقوط جماعة الإخوان في القاهرة عام 2013، وكان الحديث الذي ترامى إليه من مصادره عن استعادة مصر، حديثاً يبدو في حد ذاته غريباً وعجيباً، وكان وجه الغرابة والعجب فيه أن جماعة الإخوان لا تزال ترى الحكم هدفاً في ذاته، لا وسيلة لتحقيق مصالح الناس، وكان الدليل المتوفر أمامنا على أن الحكم عندها غاية لا أداة، أنها لما سقطت على أيدي الناخبين أنفسهم الذين أوصلوها إلى الكرسي، راحت تحتال عليهم بكل طريقة لعلها تصل إليه من جديد... فيا لها من جماعة تصمم على أن تظل غائبة عن الدنيا!
لقد نسيت الجماعة في غمرة انشغالها بالكرسي الذي أنزلها المصريون من فوقه، عدداً من الحقائق لم يكن من الجائز أن تغيب عنها، حتى ولو كان ضياع الكرسي قد أصابها بما يشبه الجنون، وحتى ولو كان ذهاب السلطة عنها قد أنساها ما لا يليق بها أن تنساه!
كانت الحقيقة الأولى أن مشكلتها قبل وصولها إلى الحكم كانت مع الحكومات المتعاقبة، هذا صحيح، ففي تلك الفترة كانت ترفع راية المظلومية باستمرار وفي كل مكان، وكان الكثيرون يصدقونها ويتعاطفون معها. ولكن الأصح أن المشكلة بعد مغادرتها مقاعد السلطة لم تعد مع الحكومة في القاهرة، وإنما صارت بالأساس مع كل ناخب أعطاها صوته ومنحها الفرصة، ثم تبين له أنها لم تكن على قدر المسؤولية الممنوحة منه لها، ولا كانت تستحق الأصوات التي حصلت عليها من الناخب في الصناديق!
وبالتالي... فالكيد الذي لا تتوقف عن ممارسته هذه الأيام في حق السلطة القائمة في قاهرة المعز، لا ينال من هذه السلطة في شيء، ولن ينال منها في الغالب الأعم، ولكنه لن يزيدها كجماعة إخوانية إلا ابتعاداً عن الشارع في البلد، ولن يضيف إليها شيئاً إلا المزيد من تعميق الفجوة بينها وبين الناس!
والحقيقة الثانية أن الحديث من جانبها عن «استعادة مصر» حديث غريب وعجيب حقاً، فضلاً عن أنه حديث يستعصي على الفهم، لأن معناه أن جماعة البنا ترى مصر حقاً أصيلاً لها، وتراها ميراثاً آل إليها، بحيث يكون عليها أن تسعى إلى استعادته إذا طار من يديها. وهذا بدوره يطيل من المسافة التي تفصلها عن الشعب، الذي لا يكره شيئاً قدر كراهيته أن تتعامل الجماعة مع البلد على أنه إرث ذهب إليها عن حق، واستقر بين يديها عن جدارة فيها لا تتوافر لدى غيرها في أرض المحروسة! فمتى تفيق الجماعة مما تغرق فيه من أوهام؟!
والحقيقة الثالثة أن شرعية السلطة بالنسبة إليها في نظر عموم المصريين، لم تكن تقاس بمجرد وجودها في مقاعد الحكم، لأن هذا الوجود في مجمله متعلق بالصندوق، وبالألاعيب التي كانت هي تجيدها في الطريق إلى الصندوق، ولذلك، فالشرعية التي تفهمها هي شرعية شكلية تتصل بمظهر الديمقراطية لا بمضمونها. أما الشرعية في جوهرها فتظل ترتبط بمدى رضا الناس عنها كجماعة حاكمة طوال سنة كاملة، وبمدى يقينهم أن الجماعة التي جاءوا بها إلى الحكم تحقق مصالحهم، وتسعى إلى حفظها وحمايتها عملياً على الأرض، عبر سلوك سياسي ناضج، وليس بالكلام الذي يناقض نفسه ويسقط عند أول اختبار!
تمسّك الإخوان بالشكل في مسألة الشرعية، وتناسوا قضية المضمون في المسألة ذاتها، فكان السقوط من نوع تحصيل الحاصل لا أكثر، لأن الشكل لا يطعم الناس ولا يسقيهم، ولأن المضمون هو الذي يقنع آحاد الناس بأن الحكم يعمل لحسابهم لا على حسابهم!
والحقيقة الرابعة أنها إذا كانت تتصور أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، يتبنى مشروعها السياسي منذ سقوطها، عن حب فيها وقناعة بالمشروع وإيمان به، فهي مخطئة مائة في المائة، وهي لا ترى إردوغان على حقيقته، ولا تتبينه على صورته العارية!
الجماعة الإخوانية في نظر الحكومة في أنقرة ليست في النهاية سوى مطية يأخذها حاكم تركيا إلى تحقيق مشروع يخصه في المنطقة من حوله، مشروع يتوهمه امتداداً لمشروع الأجداد العثمانيين القدامى، ويذهب إلى إحيائه مرة في شمال العراق، وأخرى في الشمال السوري، وثالثة في قطر، ورابعة في الصومال، وخامسة في سواكن السودانية على ساحل البحر الأحمر أيام حكم عمر البشير، وسادسة في ليبيا، وسابعة وثامنة وعاشرة إلى آخر العبث الذي يمارسه في أكثر من اتجاه!
ولو تأملت الجماعة هذه الطريقة التي يتعامل بها الرجل مع مشروعها الساقط، لأدركت بقليل من الجهد أنه يحاول تسويقه لدى الغرب منذ بداية وصول حزبه إلى الحكم مطلع هذا القرن، ليس عن يقين فيه كمشروع سياسي إسلامي، ولكن عن رغبة ظاهرة في توظيفه إلى آخر المدى، بما يخدم المشروع العثماني الذي يراوده في اليقظة ويطارده في المنام!
المشروع الإخواني يعمل في خدمة المشروع العثماني بشكل واضح ومعلن، ولكن أصحاب المشروع الأول لا يرون ذلك، أو أنهم يرون ثم يتعامون!
ولو أن الجماعة أنصفت نفسها لاكتشفت أنها لن يكون لها وجود في تركيا، إذا ما سقط إردوغان وذهب عن الحكم، وإذا ما جاء حزب تركي جديد في محل حزب العدالة والتنمية، وهذا احتمال صار أقرب إلى التحقق منه إلى أي شيء آخر!
والحقيقة الخامسة أن وطنها في مصر أبقى لها من أحلام إردوغان المتبددة في ليبيا وفي غير ليبيا، لكن المشكلة أن الجماعة لا تزال في حاجة إلى درس خصوصي تعي به معنى كلمة وطن. فلا تزال هذه الكلمة في حسابها غامضة غائمة، ولا يزال الإخوان أشد الناس حاجة إلى إدراك حقيقة تقول إنه ليس أبقى من الوطن!
والحقيقة السادسة أن الحكم ليس نزهة كما تصورت هي، ولكنه مسؤوليات ينهض بها صاحبه، فإذا عجز عنها كما عجزت في عامها اليتيم، كان عليها أن تأخذ خطوات إلى الوراء وتعتذر!
والحقيقة السابعة أن الحكم ليس تشريفاً بقدر ما هو تكليف، وليس غنيمة بقدر ما هو وسيلة، وليس انقضاضاً على مقادير بلد، بقدر ما هو اقتناص الفرصة لإثبات أنه طريق طويل في خدمة الناس، وفي الوصول بهم إلى ما لم يتيسر لهم بلوغه في سابق الإيام!
وفي الملف حقائق أخرى بطبيعة الحال، لولا أن الحقيقة السياسية التي من هذا النوع، تكتسب قيمتها من إدراك حدودها ومن إنزالها في واقع الحياة، وهو ما لم يحدث إلى الآن على مستوى الجماعة، فلا هي أدركت ولا هي أنزلت!