بقلم-سليمان جودة
القصة تقول إن أحمد لطفي السيد، الذي يقال عنه في رواية من الروايات، إنه أبو الليبرالية المصرية، والذي يوصف في رواية ثانية، بأنه أستاذ الجيل، كان قد رشح نفسه في انتخابات البرلمان في دائرته الانتخابية، بدايات القرن الماضي، وكانت الدائرة تبدأ من قريته التي هي إحدى قرى محافظة الدقهلية الواقعة شمال القاهرة، فتضمها مع قرى كثيرة، وكان هو قد راح بكل قوة يبشر بأفكاره الليبرالية في كل جولاته وخطاباته بين الناخبين، وكان يتوقع وهو يبشر بها، أو كان يتصور على الأقل، أن يكون صداها بين ناخبيه، مشابهاً لصداها الواسع الذي كان يجده ويرصده بين النخبة في العاصمة، ولم يكن يساوره أدنى شك في ذلك، وكان يسعى إلى أن ينقل تأثير كل فكرة لديه، من دائرة الصفوة المثقفة، التي هي ضيقة بطبيعتها ومحدودة، إلى نطاق الجماهير العريضة، الذي هو أوسع، وأشمل بالتأكيد!
ولم يكن الرجل يتخيل أن أفكاره التي تلقى إعجاباً كبيراً، وتجتذب جمهوراً عريضاً في عاصمة البلاد، وبين المثقفين في أنحاء الوطن، ستكون هي نفسها أقرب إلى «كعب أخيل» في الأساطير اليونانية القديمة، منها إلى أي شيء آخر. وهذا ما كان فعلاً! إن أسطورة كعب أخيل تظل مضرب الأمثال في نقطة الضعف، التي قد يراها صاحبها مصدر قوة عنده، فإذا بها الثغرة الحقيقية التي يتسلل منها إليه أعداؤه، وإذا بها البطن الرخوة التي من خلالها يحقق العدو هدفه بسهولة، وربما دون جهد يُذكر!
وقد فتش الخصوم في دائرته عن شيء في سيرته يواجهونه به، فلم يعثروا على أي شيء، فالرجل كان من عائلة كبيرة، وكانت عائلته ذات نفوذ في محيطها، وفي داخل القرية التي كان ينتمي إليها، وفي جميع القرى التي تضمها الدائرة، وكان هو متعلماً على أعلى مستوى، ولم يكن من الممكن العثور على شيء في مسيرته، أو في تاريخ أسرته ينال منه في معركته الانتخابية، أو حتى يقلل من فرص فوزه على منافسيه الذين كانوا كثيرين، وكانوا يملكون كثيراً من أوراق اللعب على نفسية الناخب، وبالضرورة على أعصابه!
وأخيراً؛ بل أخيراً جداً، وقع الخصم الأكبر لأحمد لطفي السيد في المعركة، على السلاح الذي رآه حاسماً فيها. لقد انطلق بين الناخبين يقول إن المرشح المنافس له يدعو إلى الليبرالية، وإن الليبرالية عنده تعني الديمقراطية، وإن هذه الأخيرة تعني الحرية المطلقة، وإن الحرية المطلقة لديه تعني أن يفعل كل واحد ما يحب وما يشاء، وإن ذلك معناه أن تكون المرأة قادرة على الزواج من أكثر من رجل! أليست حُرة في الحصول على كل شيء تريده؟! هكذا كان المرشح الخصم يسعى في كل أركان الدائرة، وهكذا كان يُروّج وينشر في كل وقت، وهكذا كان يعرف إلى أي مدى سوف يكون تأثير ما يقوله أمام صناديق الاقتراع!
كان يعرف أنه يسعى بما يقوله في مجتمع قروي، وكان يعرف أن أغلبية هذا المجتمع من البسطاء الذين يمكن أن يصدقوا ببراءة مثل هذا الكلام غير المنطقي، وغير المعقول، وغير المقبول، الذي كان يذيعه بينهم دون توقف. والمثير حقاً أن جانباً لا بأس به من الناخبين قد صدق كلام المرشح الخصم. وفي يوم الاقتراع كان ناخبون كثيرون يذهبون إلى لطفي السيد، لا ليسألوه عما إذا كان ما يشيعه خصمه عنه صحيحاً أم لا، ولكن كان كل واحد منهم يسأله عما إذا كان ديمقراطياً ويبشر بالديمقراطية بالفعل؟! وكان الرجل يجيب في ثقة بما معناه أنه ديمقراطي، وأنه فعلاً يدعو إلى الديمقراطية التي تعني الحرية، وأنه يدعو ليس فقط إلى الحرية، وإنما إلى مزيد منها، وأنه يدعو كذلك إلى عدم وجود رقابة من جانب الدولة على المجتمع، أو إلى تخفيف الرقابة على الأقل، لتكون في حدودها الدنيا. ولم يكن السائل يراجعه في شيء مما يقوله، وإنما كان يقارن في داخله بين ما سمعه من قبل عن أفكار هذا المرشح، وبين ما يسمعه منه، وكان ينصرف عنه مقتنعاً تماماً بأن كلام الخصم في محله، وكان يذهب ويُصوّت ضد المرشح الذي سيجعل من حق المرأة أن تتزوج من أكثر من رجل!
وكانت النتيجة أن المرشح الماكر قد فاز بمقعد الدائرة، ثم كانت النتيجة أن لطفي السيد قد خسر بجدارة، وكان السبب في خسارته، ليس سوء أفكاره أبداً، فلقد كانت أفكاراً متقدمة بامتياز، وكانت متطورة بجد، وكانت جديرة بنقل البلد من مكان إلى مكانة تليق له. لا لم يكن هذا كله ولا بعضه سبباً، ولكن كان السبب هو قدرة الخصم على تصوير هذه الأفكار نفسها على غير حقيقتها، بحيث يبدو منها للناس في عمومهم، عكس ما يقصده صاحبها من ورائها، العكس على طول الخط!
وما أخشاه أن يتكرر في تونس في بدايات القرن الحادي والعشرين، ما وقع في مصر مع لطفي السيد، في بدايات القرن العشرين، أخذاً في الاعتبار أن هناك فارقاً بحكم طبائع الأمور بين الزمن هناك، وبين الزمن هنا، بين طبيعة ما يجري في تونس هنا، وبين طبيعة ما جرى في مصر هناك!
فالرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، دعا الحكومة إلى اجتماع صباح الجمعة الماضي، وكان مشروع قانون مساواة المرأة مع الرجل في الميراث، من بين المشروعات التي ناقشها الاجتماع، تمهيداً لإحالته إلى البرلمان، الذي سوف يحوله من مشروع قانون إلى قانون نافذ. وما يعرفه المتابع لهذه القضية أن هذا المشروع قد نشأ بناء على مبادرة من الرئيس السبسي، وأن حركة النهضة الإسلامية التي تحظى بالكتلة الأكبر في البرلمان هذه الأيام، كانت قد أعلنت عدم موافقتها على مشروع القانون؛ لأنه في تقديرها مخالف للشريعة!
إن المتابع لأحوال تونس يعرف أنها مقبلة على انتخابات رئاسية وبرلمانية في نوفمبر (تشرين الثاني) القادم، ونعرف أن الاستعدادات للانتخابات تجري على أشدها منذ فترة، ونعرف أن مشروع القانون الذي بادر به الرئيس لا يزال محل خلاف واسع داخل المجتمع التونسي، ونعرف أن الذين يصطفون مع حركة النهضة يقفون ضد مشروع القانون، ونعرف أن أعضاء الحركة والذين يقفون معها على أرض واحدة سياسياً، لو بحثوا عن مادة للدعاية المضادة بين الناخبين وقت بدء معركة الرئاسة والبرلمان، فلن يجدوا أفضل من هذا المشروع، ونعرف أن مثل هذه الدعاية سوف تكون في مواجهة حزب نداء تونس، الذي أسسه الرئيس وفاز من خلاله في انتخابات الرئاسة 2014!
والمعنى أن تمرير مشروع القانون هذه الأيام، يأتي في التوقيت الخطأ تماماً، لا لشيء، إلا لأن تحويله من مشروع قانون إلى قانون، سوف يوفر دعاية مجانية لخصوم حزب النداء، وبالذات حزب النهضة، وسوف تصب هذه الدعاية في غير صالح «النداء»، سواء كان مرشحه في السباق الرئاسي هو الباجي قائد السبسي، أو كان اسماً آخر. فالاستهداف بالدعاية المضادة سيكون موجهاً إلى حزب، وتيار، لا إلى شخص، وربما يكون في الحصيلة النهائية موجهاً إلى مستقبل بلد!
إنني لا أناقش مدى صواب القضية التي يتبناها مشروع القانون، أو عدم صوابها؛ لأن الواضح أن حزب الرئيس مقتنع بصوابها، واقتناعه راجع إلى أنه يرى أن لها مؤيدين في المجتمع التونسي، ومتحمسين، ومتمسكين بالوصول بها إلى غايتها عبر البرلمان، ولكن الخوف أن تكون هي القضية الصواب اجتماعياً، في التوقيت الخطأ سياسياً، وأن تكون هي كعب أخيل اليوناني، الذي به تنال «النهضة» والذين معها، من حزب النداء كما لم يحدث من قبل، فتتصدر سباق الرئاسة في العام القادم، بعد أن تصدرت البرلمان هذا العام!
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع