بقلم:سليمان جودة
يستحق الرئيس عبد المجيد تبون، رئيس الجزائر الجديد، الذي يؤدي اليمين الدستورية صباح اليوم، أن يكون موضوعاً لهذه السطور دون منازع. ولماذا لا يستحقها وقد صار رئيساً منذ الجولة الأولى، ولم يكن في حاجة إلى جولة ثانية جرت العادة أن تكون هي القاعدة، لا الجولة الأولى، في كل انتخابات عربية تقريباً؟!
هناك بطبيعة الحال أسباب أخرى تدعو إلى أن يكون تبون هو موضوع هذه السطور، ولكني أريد أن أرجئ الحديث عن الرجل إلى مناسبة تالية، ليكون الحديث اليوم عن الرجل الذي يقف وراءه، وليس عنه هو في حد ذاته، أو حتى عن منصبه وصلاحياته التي ورثها عن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. إنها «صلاحيات ملوك» كما يسميها الجزائريون ويتداولون أمرها فيما بينهم، وهو مسمى يحمل الكثير من الإيماءات السياسية إلى أشياء، لا يجب أن تعرفها أنظمة الحكم في الجمهوريات.
وعندما أريد حصر الكلام على الرجل الواقف خلف الرئيس الجزائري الجديد، فلن تكون هذه هي المرة الأولى التي ننشغل فيها بالرجل الأقل أهمية عن الرجل الأهم. هناك سابقة شهيرة في هذا السياق، إذ كانت في عام 2011 عندما خرج اللواء عمر سليمان يعلن تخلي الرئيس حسني مبارك عن السلطة. إننا نذكر كيف أن الإعلام الذي غطى المشهد في حينه، قد انشغل بالرجل الذي وقف في خلفية الصورة، عن الصورة نفسها، وعن الرجل الذي ملأ أركانها، وكان رئيساً عتيداً لمخابرات مبارك.
كانت السابقة الشهيرة لها ملابساتها التي أحاطت بها، وكانت لها ظروفها التي نستطيع فهمها في سياق عام لا يمكن فصلها عنه تحت كل الظروف.
وكذلك الأمر الذي نحن بصدده الآن، فتوجيه عدسة الاهتمام إلى الرجل الواقف خلف الرئيس تبون، ليس القصد منه القول إن الرئيس الجزائري أقل أهمية، فهو رئيس بلد المليون شهيد، وهو رئيس البلد العربي الأكبر من حيث مساحته المفرودة أمامنا على الخريطة، وهو الرئيس الجزائري الأول الذي يأتي من خارج مجموعة الرؤساء التاريخيين، من وزن أحمد بن بيلا، وهواري بومدين، وعبد العزيز بوتفليقة، وهو أول رئيس تعرفه الجزائر في مرحلة ما بعد ربيعها العربي، إذا جاز أن نسمي ما جرى هناك منذ بدء هذا العام، بأنه امتداد لما لا نزال نقول عنه إنه ربيع عربي.
ولا القصد من توجيه كاميرا النظر إلى الرجل الواقف وراء تبون، الإيحاء بأن الرجل الواقف وراءه أكثر منه أهمية. لا، فالقصد في الحالتين هو اهتمام بموضوع أكثر منه اهتماماً بشخص كما سوف نرى حالاً.
القصد هو الاهتمام بموضوع، وليس بشخص، لأن الرجل الواقف خلف رئيس الجزائر الجديد ليس هو مدير مكتبه، ولا هو مدير حملته الانتخابية، ولا هو أحد أعضاء فريق عمله، الذي وصل به إلى هذا المنصب الرئاسي الجديد. ولكنه عبد القادر بن قرينة، رئيس حزب حركة البناء، وأحد المرشحين الخمسة الذين خاضوا السباق الرئاسي إلى نهايته.
غير أن مجرد وجوده على رأس هذا الحزب، لا يكفي وحده لأن يمنحه أهمية الرجل الواقف خلف فلان، كما قصدت من جانبي منذ بدء هذه السطور، وإنما الذي يمنحه هذه الأهمية، أنه جاء في الترتيب الثاني مباشرة بعد تبون، عندما جرى إعلان النتيجة، فحصل على ما يقرب من 20 في المائة من مجمل أصوات الناخبين، قافزاً بذلك فوق المرشحين الثلاثة الآخرين.
والسؤال الذي سوف يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم هو: وما أهمية ذلك في الميزان الأخير، إذا كان المرشح الأول الذي فاز قد حسمها منذ الجولة الأولى وانتهى الأمر؟!... ما أهمية ذلك فعلاً، إذا كان المرشحون الأربعة الخاسرون قد خرجوا من السباق فتساووا في الخروج، وإنْ لم يتساووا بالتأكيد في الكتلة التصويتية التي حصل كل واحد منهم عليها على حدة؟!
أهميته أن بن قرينة كان المرشح الإسلامي الوحيد بين المرشحين الخمسة، ومن الطبيعي أن يستوقفنا هذا، وأن نتساءل عما إذا كان حصوله على 18 في المائة من أصوات الناخبين، مؤشراً صادقاً على الحجم الذي يتمتع به تيار الإسلام السياسي بين الجزائريين؟!
إن بن قرينة لم يشأ أن يخفي حقيقة أنه مرشح إسلامي، فلقد كان هذا معروفاً عنه منذ اللحظة الأولى التي قرر فيها طرح اسمه في بورصة الأسماء المرشحة. ولو شاء إخفاء ذلك ما استطاع، ويمكن القول على هذا الأساس إن أصواته التي حصل عليها، هي مجمل أصوات المؤيدين لهذا التيار في المجتمع الجزائري، والمنتمين له، والمتعاطفين معه في الإجمال.
يمكن القول بذلك دون أن ينطوي حكم كهذا، على وقوع في خطأ التعميم، ولا على مبالغة من النوع الكبير، ولا حتى من النوع الصغير. أما السبب فهو أن كل ناخب يرى نفسه مؤيداً للإسلاميين، أو منتمياً إليهم، أو متعاطفاً معهم، قد أعطى صوته بالضرورة لمرشح حزب حركة البناء. وإذا كان هناك ناخب لم يفعل ذلك، فهو يمثل استثناءً لا يمكن القياس عليه، لتبقى القاعدة أن بن قرينة كان مرشح الإسلاميين في معركة الرئاسة، وأن كل الناخبين القريبين على أي مستوى من لونه السياسي، قد حشدوا وراءه لعله يكون هو الرئيس.
وقد حصل الرجل على خُمس الأصوات تقريباً، وهي نسبة قريبة من النسبة التي حصل عليها الإسلاميون في حركة النهضة في تونس الملاصقة للجزائر، سواء عندما رشحت الحركة رئيسها راشد الغنوشي في انتخابات البرلمان، أو عندما رشحت نائب رئيسها عبد الفتاح مورو في سباق الرئاسة.
وليس خروج مورو من الجولة الأولى في السباق إلى قصر قرطاج، سوى دليل على أن نسبة الناخبين الإسلاميين في بلاده لم تسعفه في الوصول إلى أعتاب القصر، وليس عجز الغنوشي عن تشكيل الحكومة الجديدة حتى الآن، سواء عندما حاول تشكيلها بنفسه، أو عندما رشح الحبيب الجملي لتشكيلها، سوى دليل آخر على أن النسبة في الحالتين، حالة قصر القصبة حيث مقر رئاسة الحكومة، وحالة قصر قرطاج حيث مكتب الرئيس، لا تؤهل «النهضة» للحكم بمفردها.
ولو خاض بن قرينة انتخابات البرلمان في الجزائر، ما كان في مقدوره أن يشكل الحكومة الجديدة، إلا تحالفاً مع أحزاب أخرى فائزة.
فما المعنى؟!... المعنى أن كل انتخابات جرت في كل بلد عربي تقريباً، كشفت وتكشف عن حجم وجود هذا التيار سياسياً في الشارع، وعن أنه حجم لا يؤهل صاحبه للحكم منفرداً، ولا يمنحه بالتالي حق الوصاية على المجتمع. إنه حجم نسبي يدعوه إلى التصرف بدرجة من الواقعية السياسية لا يكاد يعرفها، ثم يدعوه إلى ممارسة درجة من فضيلة التواضع السياسي بين الناس.