بقلم: سليمان جودة
عاش الموسيقار محمد عبد الوهاب مدى حياته الطويلة يخشى ويتحسب من أن يصاب بمرض السرطان، وكان لا يذكره باسمه المباشر كما تذكره الغالبية من الناس، وكان يتحدث عنه بما يشبه صيغة المبني للمجهول في اللغة، وكانت عبارة «المرض الخبيث» هي المفضلة عنده إذا تحدث عنه مع أصدقائه الأطباء!
وفي كتابه «حليم وأنا» يروي الدكتور هشام عيسى، الطبيب الخاص لعبد الحليم حافظ، أن عبد الوهاب كان يستدعيه على وجه السرعة إذا أحس ببوادر أي ألم في أي موضع من جسده، وكان عيسى يذهب إليه في الحال وكان يطمئنه على صحته تماماً، وعلى أن ما يخيفه هو مجرد هواجس وأوهام. ولكن عبد الوهاب لم يكن يكتفي بذلك، وإنما كان يحتفظ بمصحف إلى جواره دائماً، وكان يطلب من الطبيب أن يقسم على المصحف بأن الوجع الذي أحس بشيء منه لا علاقة له بالمرض الخبيث!
وكان طبيب عبد الحليم يقسم على المصحف، وكان يلاحظ شيئين اثنين في كل مرة يأتيه الاستدعاء، وفي كل مرة يكون عليه أن يسارع إلى حيث يقيم موسيقار الأجيال في الزمالك على شاطئ النيل. كان الشيء الأول أن عبد الوهاب لم يكن يسمي المرض باسمه أبداً، مهما تكلم عنه ومهما أشار إليه. وربما كان يفعل ذلك على سبيل إبعاد أذى المرض عن البيت وعن صاحب البيت، فهذا بالضبط ما يفعله عامة الناس وأولاد البلد في الحالات المشابهة، وكان الشيء الآخر أنه لم يكن يستدعي الطبيب إلا والمصحف في يده، ربما أيضاً ليطمئن قلبه ويهدأ باله الذي كانت الوساوس لا تفارقه!
وما كان يحدث بين عبد الوهاب وبين الطبيب، يحدث شيء منه هذه الأيام حول «كورونا»، فأنا أعرف أصدقاء كثيرين لا يذكرون «كورونا» باسمه، ويفضلون أن يتحدثوا عنه في العموم، فلا يشيرون إليه إلا بكلمة واحدة هي: الوباء. ليس لأن الكلمة أسهل في النطق مثلاً، ولا لأنها قد تكون أخف وطأة بحكم أنها لا تشير إلى شيء محدد، ولكن لأنهم قد يجدون في ذكر الاسم صراحةً ما يجلب التشاؤم وسوء الحظ، أو يرفع من احتمالات الإصابة بالفيروس الذي يتخفى عن الأنظار!
وحين قررت منظمة الصحة العالمية إطلاق اسم «كوفيد - 19» على «كورونا»، فإنها كانت كأنها تسهّل الطريق على الذين يتشاءمون من ذكر الاسم مجرداً، وقد صار الناس يتحدثون عن شيء واحد بمسميات ثلاثة. فهو تارة يسمى «كورونا»، وهو تارة ثانية يسمى «كوفيد - 19»، وفي الثالثة يقال: «الوباء» في المطلق، فيفهم السامع أو القارئ أن «كورونا» لا سواه هو المقصود!
وكأنه لم يشأ أن يكتفي بدقة حجمه الذي لا تراه العين المجردة، ولا حتى يراه الميكروسكوب العادي، فقرر إمعاناً في التخفي والاختباء أن يتخذ ثلاثة أسماء يتسمى بها، ويتحرك جوّالاً في العالم تحت مظلاتها، ويضرب في منطقة هنا وأخرى هناك، مرتدياً من الأسماء في كل ضربة ما يختلف ويتغير. فكيف لك والحال هكذا أن تضبطه في مكان ثابت، إذا كان هذا هو حجمه المتناهي جداً في الصغر، وإذا كانت هذه هي أسماءه التي يتنقل بينها في نشرات الأنباء بخفة ورشاقة فوق الشاشات والصفحات؟!
والذين قرأوا ما كتبه المقريزي عن فيروسات كثيرة مرّت على المصريين في أيام حكم المماليك، سوف يلاحظون أنه كان أسبق من عبد الوهاب في التحوط والتحفظ، ومن أبناء العصر في البعد عن ذكر الاسم عارياً، لعل ذلك في تقديرهم يبتعد بالشر الذي قد يأتي من وراء الاسم إذا جرى مجرداً على اللسان!
ولم يكن هذا وحده هو الذي امتاز به المقريزي، حين جلس في بدايات القرن التاسع الهجري يضع كتابه الشهير «إغاثة الأمة بكشف الغمة»!
فما كان يميزه أنه راح يسجل الأسباب التي يراها وراء الأوبئة في هجومها على الناس، وهو لم يكن من بين العلماء الذين لا مكان أمامهم للعثور على الأسباب سوى المختبرات، ولذلك، كان يبحث عنها في علاقة الناس بالناس، وفي الأرض بالسماء، وكان يرى في الخلل الذي أصاب هذه العلاقة على مستوييها، سبباً أساسياً فيما يعانيه الخلق من جراء الفيروسات!
كأنه كان يحيل الباحث عن الأسباب إلى الآية الكريمة التي تقول: «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس».
والحقيقة أن بيننا هذه الأيام مَنْ يرى في «كورونا»، ما كان المقريزي يراه في أوبئة زمانه، ولكن الفارق أن الذين يرون في خلل العلاقة على المستويين سبباً لظهور «كوفيد - 19»، ثم انتشاره بهذه القوة والقسوة، إنما يفعلون ذلك على استحياء، ويقولون ما يقولونه على خجل، ليس عن نقص في يقين عندهم، ولكن خشية من أن يواجهوا اتهاماً بأنهم يخاصمون العلم ويعيشون خارج العصر، ويبحثون عن علاج للوباء بعيداً عن المختبر، ويفتشون عن دواء خارج السياق العلمي المطلوب!
والحقيقة أيضاً أن ملابسات الظهور ومعها مراحل الانتشار، إذا كانت ستفرض على الحكومات في العالم، أن تلتفت إلى تقصير وقع منها في حق الإنفاق على العلم، وفي حق الإنفاق على العلماء، فهي ستفرض على آحاد الناس في ذات الوقت أن يبحثوا بالدرجة نفسها عن تقصير وقع منهم بعضهم في حق بعض، وعن تقصير بالتوازي وقع منهم في حق السماء!
وفي الفقه قاعدة شرعية تقول ما معناه إن الله تعالى إذا أراد شيئاً هيّأ له الأسباب، وهي قاعدة تدعونا إلى التفكير في «كورونا» من هذه الزاوية على وجه التحديد. زاوية تتطلع إلى ما يجري حولنا بمنطق فلسفي يصل إلى ما وراء الشيء بعد أن يراه!
أقصد الزاوية التي تريدنا أن ننتبه على مستوى كل دولة، وعلى مستوى العالم باتساعه، إلى أن الإنسان الذي تراجع ترتيبه في قائمة أولويات عواصم الدنيا، قد آن له أن يتقدم في القائمة، وأن يحتل المرتبة التي يستحقها، وأن يحصل على المكانة التي يستأهل أن يستقر فيها كإنسان!
كان أهل التصوف في مرحلة من المراحل يخاطبون الإنسان بصدق ويقولون: وتحسب أنك جُرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبرُ!
وكانت هذه هي النظرة الصحيحة للإنسان، وكان هذا هو التقييم الدقيق لبني آدم، ولكن الساسة في العالم كان لهم رأي آخر لا يرى الإنسان ولا يتوقف أمامه، وإذا رآه فباعتباره جُرماً صغيراً، لا باعتباره إنساناً ينطوي فيه العالم الأكبرُ الذي يتسع بقدر ما يتسع الكون!
سوف يذهب الوباء ذات يوم، كما ذهبت أوبئة حلت ومضت، ولكنه سوف يدعونا وهو يذهب إلى رد الاعتبار للإنسان، الذي من دونه لا تمتد أرض ولا ينشأ عالم ولا تكون دنيا يحيا فيها الناس. فإذا ذهب من دون أن يرسخ هذا المعنى فلن يلبث العالم حتى يستقبل الوباء الجديد!