بقلم: سليمان جودة
تعريف الدولة في علم السياسة أنها تتشكل في الأساس من ثلاثة عناصر لا رابع لها، وأن عنصراً منها إذا غاب بدت الدولة أقرب ما تكون إلى مقعد فقد أحد قوائمه فلا يستقر في مكانه. وقد كانت الأرض هي العنصر الأول، ومن بعدها يأتي الشعب الذي يقيم فوقها ويحمل جنسيتها، ثم السلطة الشرعية التي تنظم العلاقة بين أفراد الشعب بقانون عادل لا يميز إنساناً على إنسان!
وربما كان هذا هو السبب الذي دعا الدول على اختلافها، إلى الانتفاض في مواجهة فيروس «كورونا»، كما لم تنتفض إزاء مسألة طارئة من قبل. ولماذا لا تنتفض وقد ظهر لها أن هذا الوباء يضرب عنصراً من العناصر الثلاثة في وجوده؟! فهو يستهدف البشر الذين هُم الحلقة الوسطى بين الأرض كإقليم من ناحية، وبين السلطة بوصفها الحكومة التي تدير الأمور على أرضها في ناحية أخرى، ولا أحد في مقدوره أن يتصور دولة بلا شعب متماسك وقادر على البقاء!
وقد ثبت بالتجربة السياسية العملية أن الشعب يمثل العنصر الأهم بين الثلاثة، ليس لأن العنصرين الآخرين أقل أهمية، ولا لأنهما دون المستوى عند المقارنة به، ولا لأنهما يتراجعان عند الترتيب من حيث المهم فالأهم بينها، ولكن لأن الأرض إقليم ثابت في موقعه لا يتغير في الغالب، ولأن الحكومة تذهب وتأتي في محلها حكومة غيرها، ويظل الشعب هو الأقدر على الصمود على مر الزمان!
ومما ميّز الوباء ولا يزال، وهو لا يخلو من المزايا على كل حال، أنه قد وضع الحكومات أمام مسؤولياتها تجاه شعوبها، وأنه أظهر لها أن ممارسة المسؤوليات هذه المرة تختلف، لأنها تتصل ليس فقط بصحة المواطن ولكن بحياته نفسها، وأنه وضع معالم الحركة من جانب كل حكومة على شاشة تشبه شاشة البورصة، التي من فوقها كان أصحاب الأسهم يتابعون حركة الصعود والهبوط في زمن ما قبل «كورونا»!
وفي لحظة تعلقت عيون البشر بالشاشات الجديدة، التي احتلت مواضع شاشات البورصة، وامتلأت في كل الأوقات بالأرقام التي ترصد الإصابات، وتسجل نسب التعافي، وتضع أعداد الذين فقدوا حياتهم في برواز، لعل الذين على قيد الحياه يحترسون. وكانت عمليات الرصد والتسجيل والمتابعة تتم على مرأى من الدنيا ولا تزال، فلم تعد دولة قادرة على إخفاء ما يجري على أرضها!
ولم تتخلف عاصمة عن النهوض بالمسؤولية الواجبة، ودخلت الدول في سباق مع نفسها على أرضها، بعد أن كانت فيما سبق تنافس غيرها. فالسباق مع الغير على مستوى الدول لا يكون إلا بالإنسان، بوصفه الأداة التي بها تربح الدول معاركها وبها أيضاً تخسرها، والفوز في سباق من هذا النوع لا يكون إلا بالإنسان المهيأ جيداً للسعي في المضمار، وقد بدا كل إنسان كأنه هدف فوق لوحة للتنشين، يصوب عليها الفيروس ويستهدفها دون توقف منذ ظهر في العالم وانتشر!
ولم تشأ منظمة الأمم المتحدة في مقرها في نيويورك، أن تدع فرصة كهذه تمر من دون أن تنبه عواصم العالم، إلى ما لا يجوز أن يفوتها في أجواء السباق والمنافسة. فالوباء كان ولا يزال يشن هجماته على جبهة واحدة تتسع باتساع العالم بأركانه الأربعة. وكان تنبيه المنظمة الدولية الأم في المقابل يقول إن هذه الطبيعة الواضحة في هجمات «كورونا»، تدعو العواصم كلها إلى أن تمتد جبهات المكافحة بينها، لتتشكل جبهة واحدة لصد الوباء، وتصبح جبهة المقاومة موحدة من جانب العالم، في وجه جبهة موحدة يهاجمها الفيروس، وإلا فإن جهود محاصرته يمكن أن تطول، وقد يتبدد بعضها على طول الطريق!
وقد كانت حكومة خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، في المقدمة من الحكومات التي تصرفت منذ البداية، على أساس إيمان منها بأن مسؤوليتها تجاه مواطنيها لا تعفيها من مسؤولية أخرى تجاه المقيمين على أرضها، ولا من مسؤولية ثالثة تجاه العالم من حولها، بوصفها جزءاً من مجتمع دولي أشمل يضمها كما يضم غيرها. وعندما تكلم وزير ماليتها هذا الأسبوع، كان شعاره وهو يتكلم أمام اجتماع افتراضي عقده أعضاء اللجنة الدولية للشؤون المالية والنقدية، أن المحنة العالمية الحالية قد أعادت ترتيب أولويات الإنفاق لدى الحكومة التي هو عضو فيها، وأن الأولوية في هذه اللحظة تنحصر في تنفيذ الإجراءات الاحترازية التي تحمي صحة المواطنين والمقيمين معاً!
ومن قبل كان الملك سلمان قد بادر داعياً إلى قمة افتراضية لمجموعة العشرين، التي ترأس المملكة دورتها الحالية، وكان الاجتماع قد انتهى إلى تعهدات جماعية بضخ خمسة تريليونات دولار في جسد الاقتصاد العالمي، ثم كان قد أعلن التزام المجموعة التي تضم الاقتصادات العشرين الأكبر عالمياً، بأن يقوم التحرك منها في مواجهة الوباء على قاعدتين اثنتين: الحزم والتنسيق!
كان في مقدور الرياض أن تنتظر حتى يحين موعد انعقاد قمة المجموعة في موعدها الطبيعي آخر العام، ولم يكن أحد سوف يلومها لو انتظرت وتمهلت إلى نهاية السنة، ولكن إحساساً بمسؤولية عالمية، لا محلية فقط ولا إقليمية وحسب، كان هو الحاكم في الدعوة إلى الاجتماع، وهو الذي قضى بأن يجري تصنيف الاجتماع ليكون الأول من نوعه، لأنه انعقد عن بُعد للمرة الأولى بين القادة العشرين!
وعلى طريقة تعليمات السلامة في الطائرة، التي تدعو كل راكب في ساعة الخطر إلى أن يساعد نفسه أولاً، ثم يسارع إلى مساعدة الآخرين، فإن الحكومة في الرياض التي جعلت المواطنين تحت عينيها في كل لحظة، لم تشأ أن تنسى أن إلى جوار المواطنين مقيمين، وأنهم في حاجة إلى مساندة، وأنها لن تخذلهم ولن تقبض عنهم يد العون والمساعدة!
كانت هذه لحظة ظاهرة من لحظات ممارسة المسؤولية الحكومية على أساس إنساني لا يفرّق بين المواطن والمقيم، لأن كليهما يواجه الخطر نفسه، ولأن شمول المواطن بالرعاية من دون المقيم، ليس مما تحب الرياض أن توصف به في التعامل مع هذه الأزمة أو مع سواها!
وحين قضى الأمر الملكي بأن تتحمل الحكومة 60% من رواتب المواطنين العاملين في شركات القطاع الخاص، التي تأثرت بتداعيات الفيروس، كانت تلك خطوة أخرى من خطوات العمل بمسؤولية، تعرف كيف تمارس واجبها تجاه موظف الحكومة ولا تنسى موظف القطاع الخاص!
وكانت اليد الملكية التي امتدت سريعاً إلى منظمة الصحة العالمية بعشرة ملايين دولار، علامة مضافة لا تخطئها عين على أن الطابع الإنساني إزاء الجائحة، كان حاضراً في خطوات السعودية على أرضها وفي خارج الحدود على السواء!
جاء الوباء فكشف الكثير مما كان خافياً في علاقات الدول، وسوف تغرب شمس الفيروس غداً أو بعد غد، ولكن ستبقى دروسه وعواقبه. ومن طبيعة ما هو إنساني أن يحيا ويعيش في حياة الأفراد وفي تاريخ الدول أيضاً، وهذا على وجه التحديد ما كان يميز إيقاع الحركة في الرياض ولا يزال يميزه، فمنظمة الصحة ليست سعودية ولا عربية ولا إسلامية، ولكنها منظمة معنية بصحة الإنسان بغير تمييز على أساس دين، أو لغة، أو لون، وقد مدت الرياض يدها إليها في وقت أوقفت فيه واشنطن مساهمتها في ميزانية المنظمة، وكان هذا كله مما يقتضي الإشارة التي تضع الوقائع في إطارها الصحيح!