توقيت القاهرة المحلي 14:49:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أحدهما عاش يخطب... والثاني راح يغرد!

  مصر اليوم -

أحدهما عاش يخطب والثاني راح يغرد

بقلم - سليمان جودة

عاش أحدهما في مثل هذا الوقت من القرن العشرين في القاهرة، ويعيش الثاني بيننا هذه الأيام في بغداد، ولكن الروح التي خرج ويخرج بها كلاهما على الناس روح واحدة لم تتغير ولم تتبدل. أما الأول فهو القمص سرجيوس، الذي رحل بداية الستينات من القرن الماضي، وكان خطيباً لا ينافسه في سحر الخطابة سوى مكرم عبيد باشا. ولا تزال الحكايات والنوادر عن سحر خطابة مكرم عبيد، وعن سرعة بديهته، وعن قوة الحجة والمنطق لديه، تتناقلها الأجيال جيلاً وراء جيل، وربما اشتهر مكرم باشا أكثر لأنه تولى الوزارة وحاز رتبة الباشوية. ولكن سرجيوس تجاوز الباشا عندما خطب من فوق منبر الأزهر مرات، ولا بد أن هذه سابقة لم نعرفها عن قمص آخر سواه! والقصة عنده لم تكن في أنه خطب في الناس أيام ثورة 1919 من داخل الأزهر، رغم أن هذه في حد ذاتها تصلح لأن تكون قصة مروية في كل الأوقات، وإنما كانت القصة في عبارة محددة كان يرددها في تلك الأيام وكان يقاوم بها الإنجليز المحتلين.

كان يقول: أنا مصري أولاً، ومصري ثانياً، ومصري عاشراً، ولا يوجد في مصر مسلم وقبطي، ولكن يوجد مواطنون يقاومون المحتل من دون تمييز. ولا يزال الرجل مذكوراً بهذه العبارة الذهبية في الشكل وفي المضمون. ولا نزال نستدعيها في المناسبات ذات الصلة. ومع شيء من التأمل في عبارات مشابهة لأقباط كبار جاءوا من بعد القمص سرجيوس، تكتشف أن الحكاية جينات حية في الجسد القبطي، أكثر منها عبارة بليغة قد يقولها قبطي هنا، أو يعبر بها قبطي آخر عما في داخله من أفكار ومشاعر هناك. فالبابا شنودة الثالث عاش يقول: مصر وطن يعيش فينا، وليست وطناً نعيش فيه. وقد بقي يرددها حتى حفظها عنه الجميع مسلمين وأقباطاً، وعاش إلى رحيله في 2012 يعود إليها في كل مناسبة عامة، ولا يجد عبارة غيرها تسعفه فيما يريد أن يقوله عما يحسه ويستشعره.

والبابا تواضروس الثاني جاء من بعد البابا شنودة، وعايش ما تعرض له عدد من الكنائس على يد أنصار جماعة «الإخوان» في 2013، فلم يهاجم الجماعة ولا بادلها عنفاً بعنف، ولكنه صك عبارة ليست أقل قوة من عبارة البابا شنودة. قال: وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن. وفي الحالات الثلاث، من سرجيوس إلى شنودة إلى تواضروس، كان الوطن بوصلة الولاء، وكان يتقدم ولا يتقدم عليه شيء، وكانت مصر حاضرة في وجدان كل قبطي لا تغيب، وكانت مصرية كل قبطي تعلو على ما عداها، وكانت المواطنة هي المبدأ الذي يحكم ويفصل، وكان كل شخص يحيا في أرض الوادي مصرياً قبل أن يكون مسلماً أو يكون قبطياً.

وأما الرجل الثاني فهو مقتدى الصدر، الذي يعيش في أرض الرافدين، كما عاش من قبل القمص سرجيوس في وادي النهر الخالد.

لقد خاض الصدر انتخابات البرلمان في مثل هذا الوقت تقريباً من السنة الماضية، وحصل تياره الصدري على أكثرية الأصوات، وبالتالي على أكثرية المقاعد، وأصبح من حقه أن يشكل الحكومة تحالفاً مع ما يراه ويتوافق معه من بقية التيارات السياسية، فالحكومات البرلمانية في العالم تتشكل على يد حزب حصل على أغلبية الأصوات، أو على يد تيار حاصل على الأكثرية مثل تيار الصدر.

ولكنه إلى اللحظة عاجز عن تشكيل حكومة هي حكومة تياره في الأساس، وهو عاجز عن ذلك ربما لأنه يقدم عراقيته على الانتماء إلى أي طائفة، ولأن تقديره أن الطوائف جزء من كل يندرج تحت مظلة الوطن، وليس الوطن جزءاً يندرج في الطائفة. وليس أقوى من عبارته التي أطلقها: أنا وأصحابي لا شرقيون ولا غربيون. ولا بد أن العراقيين سوف يأخذونها عنه، وسوف يتداولونها في حياته ومن بعده، وسوف يفعلون ذلك كلما وجدوا أنفسهم أمام حدث يدعو إلى تداولها. والمعنى في عبارة الصدر أنه مع أصحابه عراقيون، عراقيون وفقط، لا إيرانيون ولا غير إيرانيين، هُم عراقيون لا يعرفون الولاء السياسي لغير أرض بابل.

ولا يخفى على متابع أن الصدر غرد بهذه العبارة على «تويتر»، لا ليكشف عن مدى ولائه لبلده، فهذا الولاء معروف لكل الذين يتابعون الأحوال في العراق، ولكنه أطلقها في وجه «الإطار التنسيقي»، الذي يقوده نوري المالكي ولا يداري ولاءه السياسي لإيران. فليست هناك وسيلة إعلامية تناولت شأن «الإطار» خلال الأحداث الأخيرة في بغداد أو في المنطقة الخضراء، إلا وقالت صراحة إن تيار المالكي محسوب على إيران. ولا تعرف كيف يكون الشخص عراقياً، وكيف تكون هويته التي في جيبه تقول في بياناتها إنه عراقي، ثم يقال عنه في العلن إنه محسوب على حكومة المرشد في طهران، التي لا تحمل للعراقيين إلا الرغبة في الهيمنة، وفي السيطرة، وفي النفوذ الذي يخدم مصالحها في المنطقة؟! وهذا ما قصده مقتدى الصدر في الغالب وهو يغرد بعبارته، وهو لم يغرد بها في وجه جماعة المالكي إلا على طريقة: إياك أعني واسمعي يا جارة.

ولا يغرد الصدر مخاطباً المالكي وجماعته فقط، ولكنه في الأساس يخاطب آحاد العراقيين ممن لا يعرفون غير العراق وطناً، وممن لا يقبلون بغير الولاء له أرضاً، وممن يرفضون أن يكون لإيران رأي فيما يجب أن تفعله بغداد وفيما يجب ألا تفعله. فهؤلاء ليسوا فقط ذخيرة التيار الصدري في معركته دفاعاً عن استقلالية القرار في بلاده، ولكنهم ذخيرة العراق نفسه في معركته ضد الذين يتغولون عليه، وعلى أرضه، وعلى سيادة قراره. هذه معركة عاصمة الرشيد في وجه الذين يستبيحون حدوده وسماءه وفضاءه، ومعهم الذين يأكلون من طبق العراق وعلى مائدته، ثم لا يجدون أي حرج في أن يكونوا يداً للمستبيحين تمتد، وتعبث، وتخرب. هذه معركة العراق الحريص على الاحتفاظ بقراره في داخله، ولا أدل على ذلك إلا صور قاسم سليماني التي رفعها العراقيون في بغداد مؤخراً ثم أضرموا فيها النار. هذه معركة خاضها الصدر مع أنصاره بعراقيته التي لا يساوم حولها. قد تختلف النغمة التي عزفها سرجيوس في القاهرة، عن النغمة التي يعزفها الصدر في بغداد، ولكن اللحن في الحالتين واحد!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أحدهما عاش يخطب والثاني راح يغرد أحدهما عاش يخطب والثاني راح يغرد



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 11:07 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

سعر الذهب في مصر اليوم الجمعة 24 كانون الثاني يناير 2020

GMT 00:28 2019 الجمعة ,06 كانون الأول / ديسمبر

خالد النبوي يكشف كواليس تدريباته على معارك «ممالك النار»

GMT 14:08 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"الحوت" في كانون الأول 2019

GMT 00:09 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

ارتدي جاكيت الفرو على طريقة النجمات
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon