بقلم: سليمان جودة
قضى ملف سد النهضة سنوات من مسيرته، في انتظار أن يوضع في سياقه الصحيح، وأظن أن البيان الذي صدر يوم 30 يونيو (حزيران) عن جلسة مجلس الوزراء السعودي، برئاسة خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، قد وضعه في هذا السياق!
وهنا يمكن الحديث عن ثلاث مراحل مر بها الملف، منذ أن طفا موضوعه على سطح الأحداث الجارية في المنطقة، وكان ذلك في الفترة التالية مباشرةً لوقائع ما يسمى الربيع العربي!
كانت المرحلة الأولى هي التي جرى فيها التفاوض المباشر بين الدول الثلاث المعنية بالسد، مصر والسودان وإثيوبيا، وهي مرحلة دامت سنين إلى أن انتقل الملف إلى مرحلة جديدة من مسيرته الطويلة، وكان انتقاله إلى مرحلته الثانية في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، ثم كان عليه خلال أيام قليلة مضت أن ينتقل إلى مرحلة ثالثة هي الجارية حالياً، كما سوف نرى في هذه السطور!
في المرحلة الأولى بقيت الأطراف الثلاثة تتحرك في أماكنها، رغم الوقت الذي جرى إنفاقه في جلسات متتالية وممتدة، ولم تكن أطراف الملف الثلاثة سواءً من حيث التسبب في بقاء الملف في مكانه. فالطرف الإثيوبي كان السبب في الأساس، وكان كل متابع لتفاصيل المسيرة ومحطاتها، يستطيع أن يتبين ذلك بسهولة شديدة، من دون أن يكون في ذلك أي نوع من التحامل على المفاوض الإثيوبي، ولا أي نوع من الانحياز إلى المفاوض المصري أو المفاوض السوداني!
كان موقف المفاوض القادم من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، أقرب ما يكون في كل حالاته إلى موقف السيدة دنلوب في الأسطورة اليونانية القديمة، ففيها أن زوج دنلوب كان قد ذهب إلى الحرب ثم لم يرجع حتى طال غيابه، وفيها أن رجالاً كثيرين قد راحوا يطرقون باب السيدة التي صارت بلا زوج يمكن التعرف على مكانه أو عنوانه، وكان كل واحد منهم يريد أن يسبق الآخر في الزواج منها، ولم تكن هي تدري ماذا عليها أن تفعل لتصدهم عن بابها بكلمات هادئة رقيقة!
وقد هداها تفكيرها إلى حيلة لم تخطر على بال أحد ممن كانوا لا يتوقفون عن دق بابها، وكانت الحيلة أنها أفهمتهم في رفق، أن في يدها ثوباً تنسجه، وأنها لا تفكر في الزواج قبل الفراغ منه، وأنها سوف تختار أحدهم بمجرد الانتهاء من ثوبها الذي في يديها!
وعاشوا ينتظرون، ثم طال انتظارهم، ولم يكونوا يتخيلون أنها قد راحت تفك ليلاً ما تنسجه نهاراً، وقد ظلت هي تعيد نسج الثوب من جديد في كل يوم، وظل الرجال المتسابقون على الباب ينتظرون إلى ما لا نهاية، ولكن الأمل كان يراودهم على الدوام!
ولم يكن موقف المفاوض الإثيوبي يختلف عن موقف دنلوب، طوال سنوات عشر تقريباً هي عمر المرحلة الأولى من مراحله، ففي كل جلسة كان لا بد من العودة إلى جدول أعمال التي سبقتها، فإذا جاءت جلسة ثالثة تبين أن الذي يفاوض عن الحكومة الإثيوبية قد عاد بالملف إلى المربع الأول، وقضينا سنين نسمع الكلام نفسه، والوعود ذاتها، من دون أن نقطع خطوة واحدة إلى الأمام!
وكانت العبارة التي تقول «محلَّك سِرْ» والتي يعرفها الجنود في معسكرات التدريب، هي لسان حال كل جلسة من جلسات المرحلة الأولى كلها!
وكان لا بد من مرحلة أخرى يتحرك فيها الملف من مكانه، وكانت هذه المرحلة الأخرى هي التي بدأت في نوفمبر من العام الماضي في واشنطن برعاية أميركية، وبحضور مندوب عن البنك الدولي!
وكان الواضح منذ بدايتها أن الملف يتحرك من مكانه فعلاً، فقطع الأطراف الثلاثة خطوات فعلية في طريق الوصول لاتفاق، فلما جاءت جلسة التوقيع النهائية بدايات هذه السنة، تغيب الطرف الإثيوبي عن حضورها من دون مقدمات، وكان ذلك من دواعي الدهشة والشك معاً، فلا شيء مطلقاً كان يدعوه للغياب!
وكان على الملف أن يذهب إلى مرحلته الثالثة، وكان فيها على موعد مع مجلس الأمن، الذي لم تجد القاهرة مفراً من مخاطبته، بحكم أنه مسؤول عن حفظ الأمن والسلم الدوليين. فليس من شك في أن هذا الموقف الإثيوبي الممتلئ بالتعنت، تجاه السودان بوصفه دولة ممر، وإزاء مصر بوصفها دولة مصب، إنما يهدد السلم والأمن في الإقليم، وهو إقليم أفريقي لا ينفصل الأمن والسلام فيه عن الأمن والسلام في العالم على امتداده!
وبالتوازي مع مجلس الأمن كان الاتحاد الأفريقي يتعرض للموضوع برعاية جنوب أفريقية، لأن جنوب أفريقيا هي رئيس الاتحاد في دورته السنوية الحالية!
وقد كانت المسألة بالنسبة لمصر واضحة في كل المراحل وكانت لغتها أوضح، وكانت القاهرة تقول باستمرار إن السد يمثل لإثيوبيا قضية تنمية، هذا صحيح، ولكن الأصح أن النيل الذي يحصل على 85% من موارده من النيل الأزرق حيث يقام السد، إنما يمثل للمصريين الحياه نفسها!
ولكن الحكومة في أديس أبابا كانت تحتاج في المراحل الثلاث إلى شيء واحد لم يكن حاضراً، هذا الشيء هو إبداء درجة كافية من حُسن النية في التعامل مع الطرفين العربيين في الملف، ولو توافرت هذه الدرجة لكان الملف قد وجد سبيله إلى الحل من زمان، وما كان الدكتور محمد عبد العاطي، وزير الري المصري، في حاجة أول هذا الأسبوع، إلى أن يقول بعد خروجه من المشاركة في إحدى الجلسات التي يرعاها الاتحاد، إنه من الصعب أن نقول إننا توصلنا لاتفاق، لأن لهجة إثيوبيا في الحديث لم تتغير!
ولو توافرت النية الحسنة لتغيرت اللهجة تلقائياً!
وهذا بالضبط ما تحدث عنه البيان السعودي حين دعا إلى عدم اتخاذ أي إجراء أحادي يضر بمصلحة أي طرف، ثم دعا إلى توافر النية الحسنة، من أجل الوصول لاتفاق عادل يحفظ حقوق الأطراف كافة. ولكن البيان كان قبل أن يطلق هذه الدعوة المزدوجة قد قال في سطوره الأولى، إن الأمن المائي لكل من مصر والسودان جزء لا يتجزأ من الأمن العربي!
وكانت هذه العبارة الأخيرة وضعاً للملف في سياقه الصحيح مما يدور في المنطقة، لأن إيران إذا كانت تستهدف المنطقة من شرقها، وإذا كانت لا تريد أن تكفّ يديها عن العبث في مناطق متفرقة في أرض العرب، وفي منطقة الخليج بالذات، وإذا كانت تركيا تفعل الشيء نفسه من ناحية الشمال، فإن السد في معنى من معانيه، هو استهداف للعرب من الجنوب، حتى وإن بدا في الظاهر أنه محصور في نطاق أطرافه الثلاثة!
السد يبدو ملمحاً في صورة عامة ضمن ملامح أخرى إيرانية مرة وتركية مرة أخرى، وحين توضع الملامح كلها بعضها إلى جوار بعض، فإن الصورة العامة تتشكل أمام الناظر إلى الخريطة وتستكمل إطارها، اللهم إلا إذا كشفت المرحلة الثالثة من مراحل التفاوض حول السد، وهي تذهب إلى محطتها الأخيرة غداً، أن النية الحسنة توافرت، وأن اتفاقاً قد جرى التوصل إليه، وأن ما حصل في مرحلتين ماضيتين لم يكن ملمحاً من ملامح صورة عامة، عنوانها استهداف الخريطة العربية في ثلاثة من جوانبها!
أرض العرب تبدو مطمعاً هذه الأيام، أكثر ربما مما بدت في كل فترة سابقة، والحديث عن أمن عربي أشمل، على نحو ما جاء في بيان اجتماع مجلس الوزراء السعودي المشار إليه، أمر مطلوب الآن أكثر جداً مما كان مطلوباً في كل وقت سابق!