بقلم:سليمان جودة
بحثت عن نبأ يبعث على التفاؤل في هذه المنطقة من حولنا، مع بدء عام جديد يقترن في العادة بالأمل، فلم أجد سوى النبأ الخاص باتفاق المنطقة المقسومة بين السعودية والكويت. إنه نبأ أشاع أجواءً من التفاؤل لا تبدو منطقة في أنحاء العالم في حاجة إليها، قدر حاجة منطقتنا إلى شيء منها!
هو خبر سعيد حقاً، لأنه جاء من حيث توقيته مع بدء سنة جديدة، ولأن التوجه الذي مضت عليه القيادتان في البلدين قبل الاتفاق، وفي أثناء توقيع مذكرة التفاهم قبل عشرة أيام، كان توجهاً فريداً من نوعه، ولأنه أيضاً يضع أساساً مميزاً يمكن لعواصم عربية متفرقة أن تتصرف على هدى منه، وأن تضعه أمامها باعتباره النموذج المثالي، في التعامل مع قضايا حدودية عالقة بينها من سنين!
فليس في عالمنا العربي دولة، إلا وعندها مشكلة على حدودها مع جارتها، وهي مشكلة قد تكون صغيرة بحيث يمكن تجاوزها والقفز فوقها، وقد تكون كبيرة تحتاج إلى حل كامل يغلق ملفها نهائياً، حتى لا تظل جرحاً ينزف على الجانبين، ولكنها في الحالتين تبقى في انتظار الروح التي خيمت على الحدود السعودية الكويتية فأنتجت ما أشير إليه.
هات خريطة للعالم العربي ثم افردها أمامك، وتأمل في تفاصيلها وتضاريسها وهضابها وجبالها ووديانها، وبالذات في مناطق خط الحدود بين الدول فيها، وعندها سترى كيف أن ما جرى في المنطقة المقسومة، ليس مجرد اتفاق، ولا هو مذكرة تفاهم وفقط، ولا هو كلمات مخطوطة تحمل توقيعاً في آخرها وحسب. إنه قد يكون هذا كله بالطبع، ولكنه من حيث معناه خطوة معتبرة في مجاله، وفي كتابه، وفي بابه، وسوف يظل يبحث عمن يقتدي به في فضائنا العربي ويحتذيه.
فما هي يا ترى هذه المنطقة المقسومة، التي كانت أخبارها لا تكاد تختفي وتتوارى، إلا لتظهر على سطح الأخبار من جديد؟! كان كثيرون يتابعون ظهورها واختفاءها، وكانوا يتساءلون أين تقع هذه المنطقة بالضبط، وما هي حكايتها على وجه التحديد؟! وحين خرجت مذكرة التفاهم إلى النور، بدا أننا أمام عمل استغرق وقته، حتى استوى أمام الناظرين مكتمل النضج والنمو!
التاريخ المكتوب يقول إن القصة ترجع إلى عام 1922، عندما وقّع البلدان الشقيقان اتفاقية العقير، التي أوجدت منطقة محايدة بينهما. وعلى هذا الأساس جرى العمل في المنطقة، بامتداد عقود من الزمان مضت، ولكن التجربة العملية تكشف دائماً عما لا تكشف عنه الكلمات التي يجري بها الحبر فوق الأوراق، وكان مما كشف عنه التطبيق على الأرض هناك، أن الصلاحيات متداخلة إلى حد ظاهر، وأن الأمر في حاجة إلى نظرة تستدرك ما أظهره الواقع العملي من وجوه التداخل.
وهذا ما كان في عام 1965، ففي تلك السنة جرى تقسيم المنطقة، وجرى توقيع اتفاقية تقسيمها بالتوافق بين القيادتين في الرياض وفي الكويت العاصمة، وذهب الجزء الشمالي إلى الكويت، والجزء الجنوبي إلى السعودية، على أن تظل ثروات المنطقة مشتركة بينهما على مستوييها البري والبحري، ثم كان أن جرى العمل على هذا الأساس عقوداً تالية من الزمان.
قال غانم الغانم، مساعد وزير الخارجية الكويتي للشؤون القانونية، ونائب رئيس لجنة الحدود المعنية بالتفاوض مع السعودية، في حديثه مع «الشرق الأوسط»، أول من أمس، إن العمل استمر بموجب نموذج الأرض المقسومة، إلى أن تم الانتهاء من تحديد المنطقة البحرية المحاذية لها في نهاية الألفية الثانية، ومن بعدها مضت عشرون عاماً أخرى، وصولاً إلى عشرة أيام انقضت!
ففي الوقت الذي كان فيه العام الماضي يراجع حساباته، ويقترب من نهايته، ويلملم أوراقه، ويتأهب للجلوس إلى جوار عام سابق عليه، كان المختصون على الناحيتين يوقعون مذكرة تفاهم، الثلاثاء قبل الماضي، وكانت المذكرة تنص على استئناف إنتاج النفط من حقلين مشتركين في المنطقة المقسومة، وكان ذلك يأتي بعد توقف عن الإنتاج دام خمس سنوات.
وقد كان المتابع لهذا الشأن على موعد مع عبارة أخرى للسفير الغانم، أظن أنها عبارة من ذهب، دون أن يكون في الكلام مبالغة، وأظن أيضاً أنها قد استوقفت كل مَنْ قرأها، لا لشيء، إلا لأنها جديدة في كتاب العلاقة بين الكثير جداً من عواصم العرب.
قال إن التعليمات كانت واضحة لديه من حكومة بلده منذ البداية، وكانت هذه التعليمات تقول نصاً: لا يوجد مكسب أو خسارة، وإذا توصلنا لاتفاقية فإن المكسب للطرفين.
وأنا أدعوك إلى أن تتأمل الكلمتين الأخيرتين في عبارة الرجل، لأنهما جديدتان تماماً في مفردات طريق طويل من الشد والجذب، على الحدود لدى الغالبية من دول المنطقة. طريق كان مفروشاً ولا يزال بالكثير من الخلاف، وأحياناً بالشجار بين دول ليست فقط عربية، ولكنها شقيقة، ويجمع بينها في الحقيقة من عوامل الدين، واللغة، واللون، والجنس، أكثر بمراحل مما يمكن أن يفرق، أو يُبعد، أو يشتت!
ويقيني أن هذه العبارة الواردة على لسان المسؤول الكويتي، كانت روحاً على الجانب الكويتي في الحديث، وفي التفاوض، وفي التوافق، أكثر منها عبارة منطوقة، وقد صادفت روحاً مماثلة بالتأكيد على الجانب السعودي، ولو لم تصادفها ما كانت هذه المذكرة التي ستبقى علامة في طريقها قد جاءت إلى الوجود.
يقيني أن عالماً عربياً هذه هي حدوده، وهذه هي طبيعته، وهذه هي ثرواته البشرية بالذات، لن يأخذ سبيله إلى مستقبل ينتظره، إلا إذا آمن بأن عواصمه لا تتحدث لغة العصر، وليست لغة العصر سوى اللغة التي نطقت بها مذكرة التفاهم بين السعودية والكويت!
اللغة هي أن مكسب أي عاصمة عربية، ليس من الضروري أن يكون على حساب عاصمة عربية مجاورة، فالمكسب يجوز أن يتحقق للاثنتين، والخسارة سوف تكون عندئذ بعيدة ومستبعدة!
وأملي أن تدخل مذكرة التفاهم السعودية الكويتية في مرحلة لاحقة، ضمن مناهج الدراسة في مدارسنا وجامعاتنا، لعل الأجيال المقبلة ترى أن الأمل له مساحة على حدودنا مع بعضنا البعض كعرب، وأن التفاؤل له مكان يتسع له ويستوعبه، وأن «التفاهم» الوارد في عنوان المذكرة، يمكن جداً أن يكون هو اللهجة التي نتكلمها على الحدود، وأن اللغة الواحدة، والدين المشترك، واللون المتقارب، والأرض المتصلة الممتدة، والبحار الجارية الواصلة غير الفاصلة، كلها كلها أشياء توجب التفاهم وتفرضه.