بقلم سليمان جودة
الذين ربطوا بين استفتاء بريطانيا ورغبتهم فى أن يروا شيئاً مثيلاً له عندنا، نظروا إلى الظاهر فقط فى الأمر كله، ولم يتوقفوا عند المضمون ليتأملوه، ولو فعلوا لكانوا قد أدركوا أن كل بريطانى لم يصل إلى هذه الحالة من الممارسة الديمقراطية الراقية من فراغ أبداً، وأنه لم يذهب إلى النوم، ثم يستيقظ فى اليوم التالى ليمارس ديمقراطية على هذا النحو الذى أثار إعجاب كثيرين بيننا، وإنما قطع البريطانى شوطاً طويلاً وصعباً ليصل إلى نوعية الممارسة التى مارسها على مرأى منا فى الاستفتاء!
إذا أردنا عملية ديمقراطية من نوع ما تابعناه فى استفتاء الخروج أو البقاء فى الاتحاد الأوروبى، فليس هناك مفر من أن نقطع الشوط نفسه الذى كان على البريطانى أن يقطعه وصولاً إليها، وإلا فإننا نقفز فوق ما لا يجوز القفز فوقه بأى حال!
ميزة ما شهدته بريطانيا فى استفتائها أنه عملية ديمقراطية مكتملة، وليس هناك ما هو أدل على ذلك من أن كل متابع للاستفتاء، منذ الدعوة إليه قبل شهور، إلى ما قبل إعلان نتيجته بدقيقة، لم يكن يستطيع أن يقطع بنتيجته مهما فعل، ومهما كانت قدرته على القراءة المسبقة والتنبؤ!
ففى مقابل كل 48 مواطناً عندهم قالوا «لا» للخروج من الاتحاد الأوروبى، وقف 52 مواطناً ليقولوا «نعم» للخروج، بما يعنى أن الفارق بين الفريقين طفيف للغاية، وبما يعنى أنه فارق لا يمكن بطبيعته أن نتوقع نتائجه!
فما المعنى الأعمق؟!.. المعنى أنك أمام شعب بريطانى تعلّم ثم تأهّل لذلك، مرتين: مرة فى مدارسه وجامعاته وبشكل جيد تماماً، ثم مرة فى حياته العامة، وفى مؤسساتها المدنية، وكان التعليم فى مرحلته الثانية حصيلة تلقائية للتعليم فى مرحلته الأولى، بمثل ما كانت المرحلة الأولى مؤدية حتماً إلى الثانية!
الذين أثار الاستفتاء بنتائجه إعجابهم لابد أن يتطلعوا إلى الصورة كاملة، وألا يحلموا بأن تكون عندنا ديمقراطية من نوع ما تابعوه فى لندن وفى سائر مدن بريطانيا، إلا إذا سبقها عندنا أيضاً تعليم من النوع نفسه الذى أدى إلى اكتمال عناصر المشهد الذى تابعناه جميعاً، خطوة بخطوة، وإذا لم ننتبه إلى هذا فإننا نكون واهمين بامتياز!
الإنسان لا يُولد متعلماً من بطن أمه ولكن مجتمعه يعلمه، ليس فقط فى مدارسه وجامعاته، وإنما فى كل مؤسسة يتعامل معها بامتداد يومه، بدءًا من البيت، ومروراً بالشارع ذاته، وانتهاء بالمسجد أو الكنيسة.
وإذا لم تكن هذه المؤسسات كلها وغيرها تقوم على تعليم كل مواطن، بجانب مدرسته وجامعته، كيف يحيا، وكيف يتصرف، وكيف يعيش مع الآخرين ويعايشهم، وكيف.. وكيف.. فإننا نهرّج فى الحقيقة، ثم نتوقع نتيجة جادة للتهريج!
لا تحلموا بأن تشهدوا لدينا ممارسة ديمقراطية كالتى تابعها العالم كله لديهم، لأن ما جرى عندهم هو نتيجة لمقدمة سبقته، وهناك علم كامل اسمه المنطق، يقول إن النتائج تقوم على مقدماتها، وترتبط بها ارتباطاً عضوياً، والمقدمات فى كل الأحوال هى التعليم الجيد، ولأنها ليست قائمة على أرضنا، فالنتائج عندنا سوف تكون على قدر ما قدمنا فى التعليم بالضبط، وما عدا ذلك هو أحلام يتعلق أصحابها فى الهواء، ولا يقفون على أى أرض!.