سليمان جودة
تشغلني جدًا حكاية طائرات الأباتشي الأميركية التي قال جون كيري، وزير خارجية الولايات المتحدة، خلال زيارته للقاهرة الأسبوع الماضي ولقائه مع الرئيس السيسي، إن بلاده سوف تسلمها للقاهرة في أسرع وقت ممكن!
تشغلني لأنني أرى فيها تجسيدًا حيًا لتلك العبارة الشهيرة التي ننسبها إلى ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق والأشهر، والذي كان قد قالها يومًا عن حلفائه الأميركان، بعد أن لاحظ تصرفاتهم في العالم، وبعد أن راقب سلوكهم في أكثر من موقف!
يقولون عنه إنه قال، إن الأميركان لا يصلون إلى الطريق الصحيح في أي مشكلة تعترضهم في علاقتهم بالعالم، إلا بعد أن يجربوا كل الطرق الخطأ!
والقصة أن مصر كانت قد أرسلت في أعقاب ثورة 30 يونيو (حزيران)، عددًا من طائرات الأباتشي لإجراء صيانة دورية لها في الولايات المتحدة، ولم يعرف أحد بالموضوع كله في وقته على مستوى الإعلام إلا بعد أن تبين لاحقًا أن الإدارة الأميركية راحت تتلكأ في إعادة الطائرات إلينا في القاهرة!
وأغرب ما في الأمر، أن الطائرات تملكها مصر لا أميركا، فهي طائرات ذهبت للصيانة وفقط، وليست طائرات جديدة تفاوض الحكومة المصرية واشنطن على شرائها، ولذلك فالمسألة لمن يتأملها في هدوء في غاية العجب، لأن المنطقي في حالة كهذه، أن تقبل الدولة التي ذهبت إليها الطائرات، سواء كانت هي الولايات المتحدة أو غيرها، بمبدأ صيانتها ابتداء، فتفعل، ثم تعيدها إلى الدولة المالكة لها عند انتهاء الصيانة، أو أن ترفض إجراء الصيانة أصلًا، إذا لم يكن هناك عقد يلزمها بذلك، فلا تذهب الطائرات من أساسه!
هنا.. أنت أمام حالة لا أظن أن لها مثيلًا بين الدول، لأن الإدارة الأميركية وهي تحتجز طائرات لا تملكها، إنما تمارس نوعًا من الغطرسة، وأكاد أقول البلطجة السياسية، التي لا تليق بها كبلد كان - زمان - محط آمال الحالمين بالحرية في العالم.
أفهم، ويتفهم غيري، أن ترفض الإدارة الأميركية بيع طائرات جديدة، أباتشي أو غير أباتشي، للحكومة المصرية، فهذا حقها الذي لا يجوز أن ينازعها فيه أحد، ولكن ما يعجز العقل عن استيعابه حقًا، أن تذهب الطائرات لغرض الصيانة، ويتحقق الغرض الذي ذهبت من أجله، ثم تماطل إدارة الرئيس أوباما، في موعد إعادتها على نحو مكشوف.. فهي في البداية احتجزتها دون أن يعلم الرأي العام في مصر بذلك، فلما تسرب الأمر إلى الإعلام، ولما ضجت الحكومة في القاهرة من الاحتجاز دون مبرر موضوعي، ولما أبدت الحكومة استياءها مما جرى، إذا بإدارة الرئيس الأميركي ترد بما معناه، أن التأخر في إعادة الطائرات لم يكن مقصودًا، وأنها جاهزة للعودة، وأن القاهرة تستطيع أن تتسلمها في أي وقت!
حدث هذا قبل شهر، أو شهرين، وأخذنا نحن الذين نتابع القضية أمرها في ذلك الحين بحسن نية، وتصورنا وقتها أن ما جرى كان عن خطأ، وأن الذين أخطأوا على الجانب الأميركي قد تداركوا خطأهم، وأن طائراتنا في طريقها إلينا.
تصورنا هذا، بل تصورنا مع مرور الوقت، أن الطائرات قد عادت بالفعل، وأن سوء الفهم أو التفاهم حولها قد انقضى، فإذا بنا نستيقظ على تصريح كيري الذي يقول فيه، إن عودتها سوف تكون في أسرع وقت ممكن!
وبطبيعة الحال، فإن عبارة «في أسرع وقت ممكن» هذه إنما هي «حمالة أوجه»، كما يقال في العادة عن الشيء الذي يمكن تفسيره على أكثر من وجه، لأنه لا شيء في الحقيقة يمنع من أن يكون «أسرع وقت ممكن» في عُرف الأميركان، عامًا - مثلًا - من الآن، أو عامين، أو حتى ثلاثة، ويجب هنا ألا تخدعنا كلمة «أسرع» تحديدًا في عبارة وزير الخارجية، لأنها كلمة تقال على سبيل المجاز لا أكثر!
فما معنى هذا كله على بعضه؟! معناه بالعربي الفصيح، أن الولايات المتحدة تدعم، ربما من دون أن تدري، ممارسة الإرهاب باسم الدين، في أفعالها!
لماذا؟! لأنه من بديهيات الأمور أن مصر في حاجة للطائرات المحتجزة، لا لتقيم بها معرضًا للطائرات، ولا ليلتقط المصريون صورًا إلى جوارها، ولا لتزين بها مطاراتها العسكرية، ولا.. ولا.. مما هو من هذا القبيل، وإنما تحتاج إليها - تحديدًا - لتقاوم بها بقايا الإرهاب في سيناء، فهي طائرات كما يعرف المتابعون للشأن العام، متخصصة في إنجاز هذا الهدف!
ولا بد أن أي إنسان، ليس في حاجة إلى عقل واسع، ولا إلى ذكاء خارق، ليدرك أن تأخير تسليم الطائرات مقصود، وأن الهدف منه إنما هو الضغط على الحكومة المصرية لتقبل لـ«الإخوان» بموطئ قدم في الحياة السياسية.. هذه هي القصة باختصار شديد، وهذا هو المضمون الحقيقي الذي يدركه ويراه أي عابر سبيل في شوارع القاهرة.
فإذا ما أضفنا على سبيل التذكرة، أن طلابًا منتمين إلى الجماعة الإخوانية كانوا قد رفعوا أعلامًا لـ«القاعدة» في جامعتي القاهرة والأزهر علانية، طوال العام الدراسي المنقضي، اتضح لنا على الفور، أن الإدارة الأميركية وبتأخيرها تسليم الطائرات التي تقاومه، ربما تكون متعاطفة مع جماعة هذه هي نوعية طلابها في الجامعات المصرية!
إن مصر سوف تقاوم الإرهاب باسم الدين، بطائرات الأباتشي المحتجزة، ومن دونها، وسوف تقضي عليه، لأن كل مواطن مصري محب لوطنه عازم على ذلك كل العزم، ومناصر لحكومته في هذا الاتجاه، لأبعد مدى، ودون سقف.. وسوف تعود طائراتنا الحبيسة اليوم، أو غدًا، أو بعد سنة.. سوف تعود.. وسوف يبقى في النهاية، أن هذا هو كلام الولايات المتحدة، وأن هذا هو فعلها في المقابل إزاء الإرهاب المتأسلم، وسوف يظل كل مصري مخلص لبلده يتساءل طول الوقت: ماذا بالضبط وراء هذا؟! وما الذي كانت الجماعة الإرهابية تخطط له على حساب بلد، المفترض أن «الجماعة» تنتمي إليه، وتحرص على كيانه، فإذا بالواقع الذي نعيشه، منذ 30 يونيو، يقول بالعكس تمامًا؟!