نظرة عابرة على شاشات الفضائيات، صباح أمس، كانت كافية لتجيب لك على هذا السؤال: أين نحن بالضبط من العالم المتطور حولنا؟
فقبل الحكم على مبارك والذين معه بساعات كانت كل شاشة قد تهيأت تماماً، وكانت قد جاءت بالذين سوف يعلقون على الحكم، أياً كان، وسواء كان بالبراءة أو الإدانة أو حتى بمد أجل النطق بالحكم كما جرى.. لا فرق.. ففى الحالتين، أو فى الحالات الثلاث، كان هناك كلام لا يتوقف على كل شاشة، وفى الحالات الثلاث كان هناك من يرفض الإدانة، وهناك فى المقابل منه من يستنكر البراءة! وهناك فى المقابل منهما من يتأفف من مد الأجل!
سألت نفسى: هل هذا بلد طبيعى؟!.. ثم تجاوزت السؤال إلى آخر غيره: هل البلد الذى يسمح بأن تكون أحكام القضاء مادة خصبة للإعلام هكذا، يمكن أن يطمح إلى أن يكون له، ذات يوم، مستقبل مختلف عن الواقع الذى يعيشه ويحياه؟!
أترك الإجابة لك أيها القارئ الكريم، ولا أصادر على رأيك، أياً كان، غير أن ما أعرفه أن الحكم على أى شخص، سواء كان مبارك أو أى مواطن سواه، يصدره القاضى.. والقاضى وحده.. وأنه لا أحد من حقه أن يعقب على الحكم، أو يتناوله بالنقاش العام هكذا.. لا أحد.. وليس للإعلام من دور هنا سوى أن يذيع الحكم كما صدر على الناس، وفقط، فما ينتظره المواطنون من حكم كهذا أن يقال لهم إن حكماً قد صدر بكذا على فلان.. لا أكثر من هذا، ولا أقل.
أما أن يتحول الحكم، بمجرد صدوره، إلى جسد ممدد على موائد الجدل، على كل شاشة، فهذا هو الجديد حقاً، وهذا هو الخطر حقاً، بل هذا هو العار حقاً!
ومما يزيد الأمر سوءاً أن الذين كانوا يتجادلون حول الحكم، بافتراض أننا قد قبلنا بالجدل حوله أصلاً، ليسوا أهل قانون، بحيث يمكن أن يتكلم الواحد منهم عن أمر يعرفه.. لا.. فالذى يعرف يتكلم، وكذلك الذى لا يعرف، وكل واحد مدعو إلى أن يبدى «رأيه» فى الحكم.. تصور!
لم يكن يعنينى فى المسألة أن يحصل المتهمون على البراءة، أو أن تجرى إدانتهم، فهى مسألة تخص القاضى.. والقاضى وحده.. ولا يجوز بأى حال أن يكون حكمه موضعاً لإبداء الآراء على النواصى والطرقات هكذا.. فليس هناك بلد يعرف معنى أحكام القضاء، أو يدرك معنى قدسية هذه الأحكام، يسمح بشىء من هذا أبداً أو يقبله.. يستحيل!
المطلوب، والحال هكذا، أن يتطلع القاضى إلى الشارع، وإلى الصخب الحادث فيه، ثم يحكم، لا أن يحكم بما أمامه من دلائل، وقرائن، وبراهين.. لا.. فهذا كله، والحال هكذا، هو آخر ما يمكن أن يضع له اعتباراً، أو يحسب حسابه!
وحين يحدث هذا، وهو حاصل عندنا منذ ثلاث سنوات أو أكثر قليلاً، ينتفى العدل كقيمة، ويتوارى «القاضى» من فوق منصته، يملأ «الناشط» فى الشارع أركان الصورة!
لا تسأل نفسك، من فضلك، عما حكم به القاضى على متهمى الأمس، ولكن اسأل نفسك عما إذا كان القاضى حراً من كل قيد، ومن أى ضغط، خارج قاعة المحكمة، وهو يقضى بما يجب عليه أن يقضى فيه؟!
بالله.. كيف يمكن لقاضى مبارك، والذين معه، أن يحكم مستريحاً، وهو يرى الدنيا من حوله قد تركت كل ما فى يديها لتركز أنظارها عليه؟!.. أخشى أن أقول إن كل شاشة على حدة قد أصدرت الحكم، بالأمس، قبل أن يصدر عن القاضى، وأخشى أن أقول إن بلداً يشهد هذا العبث، ثم يسكت عليه، إنما هو بلد لا يحق له أن يتطلع إلى أن يكون له موطئ قدم فى القرن الحادى والعشرين.. فمواطئ أقدامه هناك، فى قرون مضت، كما أن حيازة تذكرة لدخول القرن الحالى ليست أمراً مجانياً، ولن تكون!
الذهاب إلى القرن الجديد له ثمن لم ندفعه بعد، وفى كل مرة تأتينا فرصة للذهاب إليه فإننا نبددها تماماً، وإذا شئت أن ترى فارجع وتأمل أجواء الأمس!!.. الأمس فقط وليس ما قبل الأمس!