سليمان جودة
حضرت، صباح أمس الأول، احتفالات الشرطة بعيدها، وأعجبنى أن يقول اللواء محمد إبراهيم، وزير الداخلية، إن مصر تحتفل هذه الأيام مرتين، مرة بعيد شرطتها، الذى يوافق 25 يناير من كل عام، منذ بطولات البوليس الشهيرة فى الإسماعيلية، فى هذا التاريخ، من عام 1951، ومرة بالذكرى الرابعة لـ25 يناير 2011.
ثم أعجبنى أكثر أن يمارس الرئيس نوعاً من النقد الذاتى، وهو يتحدث فى الحفل، فيقول إنه قد تكون هناك بعض التجاوزات أثناء تأدية الشرطة لعملها.. هذا صحيح.. غير أنها تظل، أولاً، تجاوزات غير مقصودة قطعاً، كما أنها، ثانياً، تجاوزات قليلة قد يفرضها الظرف الاستثنائى الذى تؤدى فيه الشرطة عملها حالياً، ثم إنها، ثالثاً، وهذا هو الأهم، ليست موضع إقرار من أحد فى الدولة كلها، من أول الرئيس ذاته إلى أقل جندى فى جهاز الشرطة كله.
ولأننى، منذ دخل الرئيس مكتبه لأول مرة، صباح يوم 9 يونيو الماضى، أراهن على ما يقوله للناس تلقائياً من قلبه، لا مكتوباً على ورق أمامه، فقد انتظرت مع غيرى ممن حضروا ما سوف تجود به تلقائيته عليه، وقد جادت بالكثير!
جادت عليه عندما رفض أن يبدأ فى إلقاء كلمته إلا إذا صعد خمسة من أطفال الشهداء حضروا الحفل، ليقفوا إلى جواره فوق المنصة، جنباً بجنب، طوال الكلمة، وكانت لقطة - فى ظنى - تعنى الكثير جداً، ثم اكتملت حين أشار هو إلى الأطفال الخمسة على يمينه، ويساره، ثم قال: إنهم يسندوننى الآن!
وجادت عليه تلقائيته حين خاطب الفنانة الكبيرة يسرا، من بين الحاضرين بالاسم، ومعها الفنان أحمد السقا، وغيرهما من الفنانين، وهو يقول - ما معناه - إن عليهم مسؤولية كبيرة للغاية فى بث رسائل الأمل بين الناس، وإن الله سوف يحاسبهم على ما يقدمونه للجمهور، وإنه ينتظر معنا نحن المشاهدين أن نرى جميعاً ما سوف يتحقق من ذلك، فى أعمال رمضان المقبل بشكل خاص، ثم فى الأعمال الفنية بوجه عام.
هنا.. أدركت من جانبى أن الرئيس يفهم جيداً ماذا يعنى أن يكون الفن محملاً بالرسائل الإيجابية بين جمهوره، ولابد أنه لا أحد سوف يدرك حدود ما يقصده رئيس الدولة فى هذه النقطة تحديداً، إلا إذا ذهب هذه الأيام إلى أى عاصمة عربية، ثم رأى بعينيه هناك كيف كان الفن المصرى الأصيل، زمان، سفيراً لنا، فوق العادة، لدى العرب كلهم، فى كل لحظة، ثم كان، فى الوقت نفسه، مكوناً لوجدانهم، وتاركاً إلى الآن بينهم ما لا يمكن لزمان أن يمحوه!
ثم جادت التلقائية على الرئيس أكثر وأكثر، عندما وقف فوق منصته مستقبلاً أمهات شهداء الشرطة، وآباءهم، وأبناءهم، وزوجاتهم، لا ليسلم كل واحد، أو واحدة منهن، وسامها، وإنما ليمنحها كأم، أو كزوجة صارت أرملة، دفعة من مشاعره كرئيس مسؤول، مع الوسام!
كان الحديث الهامس يطول أحياناً، بينه وبين هذه الأرملة، أو تلك، ولم يكن أحد منا فى القاعة يسمع ماذا يقول هو، ولا ماذا تقول هى، وحين انتهى من منح الأوسمة قال وهو يضحك: أنتم لا تعرفون ماذا كانت تلك الأرملة تقول لى.. ثم راح يوجه حديثه إليها وهو يقول: كل ما سمعته منك سوف يتحقق، وسوف يكون بإذن الله!
من ناحيتى، أستطيع أن أخمن بعضاً من المعنى العام، الذى كان الرئيس يهمس به فى أذن كل أرملة، أو فى أذن كل أب، أو كل طفل أصبح يتيماً، لا لشىء إلا لأن الإرهاب المجرم قد حرمه من أبيه.. أستطيع أن أخمن أن الرئيس كان يقول لهم جميعاً إن شهداءكم هم شهداء كل مصرى بالعموم، وليسوا شهداءكم وحدكم، وإنهم ذهبوا لنبقى نحن، بل لتبقى مصر، رغم أنف كارهيها وحاسديها، فهذا هو الأهم، ثم إن هذا كله لا يمكن أن يطويه أى نسيان.. لا يمكن!