سليمان جودة
يشعر المرء بألم حقيقى حين يطالع الصحف فيقرأ فيها ما يشير إلى أن ما يحدث فى اتجاه معين، بعد ثورتين، هو نفسه ما كان يحدث قبلهما، وبالكربون، وأن شيئاً بالتالى لم يتغير.. ولا تكاد تعرف، بينك وبين نفسك، وأنت تتأمل أحوالاً عامة هنا، مرة، وهناك مرات، ما الذى بالضبط سوف يغير من تفكيرنا ومن أدائنا، إذا كان انقلاب الدنيا على رؤوسنا بعد الثورتين لم يفلح فى ذلك، ولم يقنعنا به، ولم يؤثر فينا كما يجب!
هذه مقدمة ربما تكون قد طالت أكثر مما هو مفترض، لأقول لك إنى قد انقطع صوتى فى هذا المكان، فيما قبل 25 يناير، مطالباً المسؤولين الذين يعنيهم الأمر وقتها بأن يمنحوا القاهرة فرصة التنفس، ولو لمرة واحدة، من خلال هدية جاءتهم من السماء، ولا تتكرر فى بلاد الدنيا كثيراً، وإنما هى تأتى فى حياة هذه العاصمة أو تلك مرة أو مرتين بالكثير، فى مسيرتها كلها كمدينة!
أقول هذا وأنا أرى أن المهندس إبراهيم محلب، رئيس الحكومة، التى جاءت بعد ثورتين، قد عاد على الفور من الولايات المتحدة، وبالقطع فهو قد زارها من قبل ويعرف ما الذى يفعله الأمريكان وغير الأمريكان، إذا ما خلا عندهم مطار مجاور لأى مدينة أو عاصمة، ولم يعد صالحاً لاستقبال الطائرات أو الاستخدام كمطار.
يعرف مهندسنا محلب أن القائمين على أمر مثل هذه المدينة أو تلك العاصمة، يتلقفون الفرصة فوراً ولا يتركونها تفلت من أيديهم ويعتبرونها منحة من السماء، وأن عليهم أن يحسنوا استقبالها والتعامل معها.
يعرف مهندسنا محلب أن أرض المطار فى هذه الحالة تتحول دون نقاش إلى رئة مضافة، يتنفس منها أبناء المدينة المجاورة لها، فيزرعونها بالأشجار، وفى وسط الأشجار يوزعون المدارس، والملاعب والمساحات الخضراء الممتدة، لتكون الأرض كلها، عندئذ، ملعباً مفتوحاً على الأفق، فيمتص زحام العاصمة أو المدينة، ويخفف عن أهلها من وطأة الزحام، والتراب، والعوادم بكل أصنافها، هو ما نتنفسه جميعاً بالأطنان فى كل صباح!
يعرف مهندسنا محلب أن أبناء أى مدينة مزدحمة، بل مخنوقة إلى ما يقرب من الموت، كالقاهرة مثلاً، يتشبثون بفرصة كهذه، ويمسكون فيها بأياديهم وأسنانهم، ولا يرضون بتحويلها إلى حديقة ممتدة، مزروعة بالملاعب والمدارس، بديلاً مهما كان!
يعرف مهندسنا محلب، وهو رجل بناء فى الأصل، أن حال قاهرتنا لا يسر عدواً، ولا صديقاً، وأن الحال فيها قد وصل من حيث درجة التلوث ومستوى الزحام، إلى حد أن سفارات أجنبية فيها أصبحت تلزم أعضاءها بأن يخرجوا منها تماماً، عند نهاية كل أسبوع، وتهددهم بجد بأنهم إذا لم يفعلوا ذلك، أسبوعياً، وبانتظام، فسوف لا يخضعون لنظام التأمين الصحى، الذى تعمل تحت مظلته السفارة.. أى سفارة أجنبية.. لأنه ليس معقولاً أن تعرض نفسك كعضو فى أى سفارة لكل هذا التلوث الذى تعوم فيه القاهرة، ثم تطلب من سفارتك، فى النهاية أن تعالجك إن أصابك المرض!
يعرف مهندسنا محلب أن شيئاً من هذا أصبح من نوع العقد غير المكتوب، بين كل سفارة أجنبية فى عاصمتنا، وبين أعضائها، وأن السفارات تعلم هول ما يمكن أن يصيب الإنسان، إذا ما أقام فى مدينة مثل القاهرة، لفترة طويلة، دون أن يجدد هواء صدره، ولذلك، فهى لا تتهاون فى ذلك أبداً!
يعرف مهندسنا محلب هذا، ويعرف أكثر منه، ويعرف أن السفارات الأجنبية إذا كانت ترعى أعضاءها هكذا، فإن مواطنينا المصريين لهم الله تعالى، ثم رئيس الحكومة باعتباره الرجل المسؤول.. ويعرف أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن محافظ الجيزة، الدكتور على عبدالرحمن، إذا كان قد قال صباح أمس، إن 70 فداناً من أرض مطار إمبابة سوف يجرى طرحها أمام مستثمرين لإقامة مولات تجارية على جزء منها، فمعنى هذا أن مواطنى العاصمة محكوم عليهم بأن يكون الموت زحاماً وتلوثاً من أمامهم، والمولات الجديدة من خلفهم، إلا أن ينقذهم مهندسنا محلب بقرار نحسبه له مدى الحياة.
"المصري اليوم"