سليمان جودة
أبحث عن كلمات تصلح لوصف ما جرى في الموصل، في شمال العراق، خلال أيام مضت، على حقيقته، فلا أجد إلا كلمات صدرت عن الدكتور نبيل العربي، الأمين العام لجامعة العربية، وفيها يقول إن ما جرى هناك وصمة عار لا يجوز السكوت عنها، وجريمة في حق العراق، وفي حق تاريخه، وفي حق الدول العربية، والإسلامية، والمسلمين جميعا.
بهذه العبارات القوية، التي هي أقرب للرصاص منها للكلام، جاء بيان الأمين العام للجامعة، إزاء ما قيل عن أن الموصل قد خلت من مسيحييها تماما، ولأول مرة في تاريخها كله، بعد أن جرى تهجيرهم على يد أعضاء في تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» الذي اشتهر في الإعلام باسم «داعش»!
تخلو الموصل، إذن، من «مواطنيها» المسيحيين، لأول مرة في تاريخها كله، وقد كانت من قبل، وبامتداد التاريخ ذاته، أرضا تسع المسلم والمسيحي معا، ومعهما صاحب أي ديانة أخرى، ما دامت الأرضية التي يقف عليها الجميع، هي «المواطنة» بمعناها الحقيقي.. المواطنة التي تعني أنك تعيش في بلد، فتحمل جنسيته، وتنتمي إلى أرضه، وتحيا وتموت عليها، بصرف النظر تماما، عن ديانتك، وعما تدين به، فهذا مما سوف يحاسبك الله وحده عليه، وهذا مما لا يليق بأي إنسان أن يتدخل فيه، بينك وبين خالقك.
تخلو الموصل من مواطنيها المسيحيين، على يد تنظيم يطلق أفراده لحاهم، ويتحركون بين العراقيين وهم يقولون إن الله تعالى قال، وإن رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام قال، ولو تحرى أي واحد فيهم، فيما قال ربنا في علاه، في قرآنه، وفيما قاله رسولنا العظيم، في أحاديثه الصحيحة التي لا شك فيها، فلن يقع أي منهم، على حرف واحد.. نعم حرف واحد.. في القرآن، ولا في الأحاديث الصحيحة، يجيز إخراج المواطن من أرضه تحت أي ظرف، لا لشيء، إلا لأنه يؤمن بكتاب سماوي آخر، بخلاف القرآن!
تخلو الموصل من 50 ألفا من مواطنيها المسيحيين، على حد تعبير بشار كيكي، رئيس مجلس محافظة نينوى العراقية، الذي قال معلقا على ما حدث، إن الموصل حتى 2003، كانت تضم هذا العدد من المسيحيين، وإن 30 ألفا منهم خرجوا منذ ذلك التاريخ، إلى أن ظهر بيننا «داعش» فخرج الباقون!
ولعلك تلاحظ هنا، أن 2003، هو عام الغزو الأميركي للعراق، وأن الـ30 ألفا قد خرجوا من ديارهم، قسرا، في ظل وجود الأميركان هناك، وفي ظل كلام لا ينقطع لإدارتهم الحاكمة في واشنطن عن حقوق الإنسان، في أي مكان، فإذا ما بحثت أنت عن رصيد لكلام عن هذه الحقوق، من جانب البيت الأبيض، على الأرض، صدمتك هذه الأخبار من الموصل، التي تضع أمامك الحقيقة عارية، كما هي، على المائدة!
ثم لعلك سوف تلاحظ أيضا، أن الذين تبقوا من مواطني المدينة المسيحيين، قد خرجوا على يد هذا التنظيم المتطرف لأبعد حد، وكأن سخرية القدر تأبى إلا أن تلفت انتباهنا، إلى أن المسألة إذا كانت هكذا، وهي هكذا فعلا، فلا فرق إذن، بين إدارة حاكمة في بيتها الأبيض، وبين تنظيم يذهب في التطرف إلى مداه.. لا فرق.. وإلا فما معنى أن يخرج نصف مواطني الموصل المسيحيين، من أرضهم، رغم أنوفهم، على يد الأميركان، أو بمعنى أدق في ظل وجودهم في البلد، وسيطرتهم على مقدراته، ثم يخرج النصف الآخر، مرغما كذلك، في ظل «داعش»؟!
ما الفرق، والحال كذلك، بين هذا الـ«داعش» وبين أوباما في بيته الأبيض، بكل ما نفترض أنه وراءه، من قيم كان قد وضعها الآباء المؤسسون الستة للدولة الأميركية، وكان من بينها، بل في طليعتها، حق الإنسان المطلق، في حرية الاعتقاد، أيا كان اعتقاده، وأيا كان يقينه، وأيا كان إيمانه الذي ينطوي عليه صدره؟!
تخلو الموصل من مواطنيها المسيحيين، لأول مرة في تاريخها كله، ثم لا تسمع كلمة، ولا حرفا من إدارة الرئيس الأميركي، تقول من خلاله ما يجب أن يُقال، وهو أن هذا جريمة كاملة الأركان، في حق مواطنين لم يرتكبوا ذنبا، سوى أنهم اعتنقوا المسيحية دينا!
تخلو الموصل من مواطنيها المسيحيين مرتين؛ مرة على يد الأميركان، ومرة على يد التنظيم إياه، ثم لا نصادف من جانب الولايات المتحدة إلا صمتا مطلقا، بالضبط كما كانت قد التزمت الصمت نفسه، عندما هاجر أقباط كثيرون من مصر، وقت وجود الإخوان في الحكم لمدة عام، وقد كان الأميركان أنفسهم، يقيمون الدنيا، ولا يقعدونها إذا ما تعرض قبطي واحد لجرح في أصبعه، أيام حسني مبارك!
يحدث هذا، بكل هذا الوضوح، لنكون نحن من جانبنا على يقين، بأن وضع المسيحيين في المنطقة عموما، والأقباط في مصر خصوصا، لا يهم الإدارة الأميركية الحاكمة في شيء، إلا بقدر ما يكونون ورقة ضغط في اتجاه تحقيق مصلحة أميركية مجردة!
تخلو الموصل من مواطنيها المسيحيين، ليأتي يوم فيما بعد، يُقال فيه، إن رئيسا أميركيا اسمه أوباما، كان في مكتبه البيضاوي، وإن أقباطا أُرغموا على ترك بلدهم مصر، أيام الإخوان، في أثناء وجوده في مكتبه، وإن مواطنين مسيحيين عراقيين قد أُرغموا أيضا على مغادرة بيوتهم، في أثناء وجوده في مكتبه كذلك، وإنه قد تظاهر وقتها، بأن سمعه ثقيل، وإن الكلام إذا توجه إليه، حول هذا الشأن، فإنه لا يصل إلى أذنيه!
تخلو الموصل من مسيحييها، كما كادت تخلو مصر قبلها من أقباطها، على أيدي ناس يحدثونك في كل صباح، ويا للأسى، عما قال به الله تعالى، وقال به رسوله الكريم، مع أن الإخلاء في حالتيه، لم تكن له أي صلة بالسماء، ولا بقرآنها، ولا بتعاليمها، ولا بأحاديث رسولها الذي كان إذا مرت به جنازة ليهودي، وقف لها، لأنها لإنسان.. نعم لإنسان وفقط.. وهذا وحده كان عنده عليه الصلاة والسلام يكفي ويزيد.