سليمان جودة
أخذونا، صباح أمس، فى زيارة إلى قصر فرساى الشهير فى باريس، ورغم أنى زرته من قبل، عدة مرات، إلا أنى لم أتوقف فيها كلها، أمام الشىء الذى توقفت أمامه هذه المرة فى داخل القصر!
لن أصف لك معالم الفن المتجسدة فى كل حجر فيه من الجدران، إلى الأسقف، إلى الممرات، والحدائق والبحيرات، إلى حجرة نوم الملك فلان، أو حجرة نوم الملكة علان، من ملوك فرنسا فى القرن السابع عشر، وكلها حجرات كانت مليئة بالذهب، والحرير، والفضة.. ولكن من المهم أن أقول إن أى زيارة إلى العاصمة الفرنسية لا يضع صاحبها، فى برنامج أيامه، زيارة إلى فرساى، هى زيارة ناقصة بالضرورة!
وهى ناقصة بالضرورة، لأنى لن أستطيع هنا أن أنقل لك، فى سطور قليلة، ما يجب أن تراه فى ساعات، ثم تتوقف أمامه العبرة فيه طويلاً، لتسأل نفسك عن الوقت الذى استغرقه هؤلاء الناس فى نقش آيات هذا الفن الراقى، على كل جدار، بل وعلى كل سقف.. ثم كيف نقشوه، بهذه المهارة، وهذه البراعة، وهذا الإبداع الممتع لكل عين، والمثير لكل إعجاب حقاً.. وسوف تسأل نفسك، حين تكون هناك، سؤالاً آخر بالضرورة أيضاً هو: أين كل هؤلاء الملوك والملكات، والأبناء الأمراء، والحفيدات الأميرات، الذين سكنوا هذا القصر الفخم ذات يوم؟!.. أين هم الآن أين؟!
بالنسبة لى، رنّت العبارة فى أذنى، عندما أشارت السيدة التى كانت ترافقنا إلى شرفة، أو بلكونة من بلكونات القصر، ثم قالت: هنا وقفت الملكة مارى أنطوانيت، وخاطبت شعبها ذات يوم!
رنّت العبارة فى أذنى، لأن القصة يعرفها أغلبنا تقريباً، وهى أن بؤساء الفرنسيين عندما ثاروا فى يوم من الأيام، من شدة بؤس الحال، ووصلت أصوات ثورتهم إلى مارى أنطوانيت فى غرفتها، فإنها قد أدهشها أن يثور بسطاء الفرنسيين، وأن تكون تعاستهم فى الحياة قد وصلت إلى حد أن يخرجوا فى مظاهرات، لأنهم لا يجدون ما يجعلهم بنى آدمين فى بلدهم.. أدهش مارى أنطوانيت ذلك، ووقفت فى بلكونة القصر، وهى تتساءل فى سذاجة عن السبب الذى يجعل هؤلاء الثائرين المتظاهرين لا يأكلون الجاتوه، مثلاً؟!.. فمما قيل عنها إنها سألت مساعديها فى دهشة: لماذا لا توزعون الجاتوهات على هؤلاء الذين يتظاهرون؟!
ويبدو أن الذين كانوا حولها، والذين كانت هى تصرخ فيهم، كانوا قد حجبوا عنها مدى ما كان أبناء الشعب، فى عمومهم، يواجهونه، من معاناة، فى كل ساعة من ساعات اليوم.. وكانت هى تتصور، لسذاجة، أو لسوء تقدير، أن ثورة شعبها عليها، وعلى زوجها، ليست مبررة، وأن فى إمكانهم أن يأكلوا الجاتوه، وساعتها، لن يثوروا، ولن يتظاهروا!
لم تكن تعرف أن شعبها لا يجد كل الأشياء الضرورية التى لابد أن تسبق الجاتوه فى حياته، وأنك لا يمكن أن تطلب ممن لا يجد أساسيات دنياه أن يهدأ، ويتناول قطعة من الجاتوه.. بافتراض أصلاً أنه سوف يجدها!.. إننى لا أريد أن أتطرق إلى مصيرها، أو مصير زوجها، حين غابت حقائق البلد عنهما، ولكنى أقول إنه يزعجنى جداً أن أجد اليوم، فى مصر، بين مسؤولينا فى مستويات الدولة العليا، مَنْ يكاد يخاطب المصريين الذين لا يجدون قوت يومهم، بنفس منطق مارى أنطوانيت.. يحزننى ذلك، ويزعجنى وأريد أن أنبه بأعلى صوت هؤلاء الذين عليهم أن ينتبهوا، وأن يتدبروا مكر التاريخ!