سليمان جودة
عندى حكايتان من الواقع الحى يمكن أن يسترشد بهما المهندس إبراهيم محلب وهو يتعامل مع مسألة الدعم بوجه عام، ويمكن لنا أن نسترشد بهما ونحن نفكر مع الرجل من أجل البلد.
أما الأولى فهى لأستاذ فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة عاش لفترة فى الولايات المتحدة، ثم عاد ليحيا ويعمل فى بلده وهو يشعر منذ عاد بنوع من تأنيب الضمير كلما ذهب ليملأ سيارته بالبنزين من أى محطة تصادفه!
لماذا؟!.. لأنه يرى نفسه ميسوراً، فهو ليس فقيراً، ولكنه ليس مليونيراً، وإنما يستطيع بدخله المعقول من عمله أن يحصل على احتياجاته من السوق بأسعار تكلفتها الحقيقية، وهذا بالضبط سبب إحساسه بتأنيب ضمير عند كل مرة يكون عليه فيها أن يحصل على وقود لسيارته من محطات بنزين الحكومة!
هو يرى - كما سمعت منه - أنه فى إمكانه أن يشترى البنزين دون دعم، وأن سعر اللتر من بنزين 92 إذا كان قد أصبح 260 قرشاً، وإذا كانت تكلفته الحقيقية خمسة جنيهات، مثلاً، فإنه قادر على دفع الجنيهات الخمسة ثمناً لكل لتر، وفى كل مرة يدفع 260 قرشاً يظل يشعر فى داخله بأنه حصل على شىء ليس من حقه، ولذلك، فإنه يبحث عن وسيلة يرد بها الفارق بين السعرين للحكومة، فلا يجد، ويتمنى أن تعثر الحكومة على هذه الوسيلة وأن تخترعها اختراعاً، وأن تتيحها له ولغيره من أمثاله، لأنه ليس حالة فريدة قطعاً، وإنما لابد أن إلى جانبه قادرين كثيرين يحصلون على دعم فى البنزين وفى غيره، دون حاجة منهم إليه، وليس لحكاية هذا الرجل من معنى سوى أن الدولة تدعم فئات فى المجتمع، رغم أنفها، ورغم أن هذه الفئات ليست فى حاجة إلى أى دعم من أى نوع، بل إن الحال قد وصل ببعض أفرادها إلى الإحساس بالذنب كما نرى!
هل يكون الحل بأن توفر وزارة البترول - مثلاً - فواتير خاصة فى كل محطة بنزين، يباع بها اللتر بتكلفته الحقيقية لكل غير مستحق للدعم، على أن تقوم المحطات بتوريد الفارق للخزانة العامة؟!.. أم يكون بفتح حساب خاص يقوم من خلاله كل الذين يشعرون بأنهم حصلوا على دعم غير مستحق برد قيمته وتوريدها لصالح الدولة؟!.. أما ماذا بالضبط؟!
ما أعرفه أن الدولة على مدى سنين لم تكن تفرق بين المستحق وغير المستحق، وكانت تدعم الجميع دون تمييز، وكأنها لا تجد باباً تنفق فيه أموالها، حتى بلغ الأمر حداً ضاق معه المدعومون عن غير حق بدعمهم، وصاروا يناشدون الحكومة، وحالة الأستاذ الجامعى خير دليل، أن ترفع دعمها عنهم، وأن توجهه إلى حيث يجب أن يتوجه!
فى المقابل، هناك حكاية أخرى لموظف يعمل فى الدقى، ويسكن فى قرية تابعة لمدينة طوخ، وهو يقطع المسافة من بيته لعمله عبر ثلاث وسائل مواصلات: سيارة من قريته إلى طوخ كانت بخمسين قرشاً أصبحت بجنيه كامل، وسيارة من طوخ لشبرا كانت بجنيه ونصف، فأصبح يدفع فيها جنيهين ونصفاً، ثم مترو الأنفاق الذى لاتزال تذكرته كما هى.
والمعنى أن الأسعار الأخيرة أضافت إلى هذا الموظف ثلاثة جنيهات يومياً، فى بند المواصلات وحده، بواقع 90 جنيهاً فى الشهر، وقد كان يروى لى حكايته، وهو يئن من أعبائه الجديدة، لنجد أنفسنا فى النهاية أمام أستاذ جامعى هناك، يحصل على دعم لا يستحقه، ويريد رده، لكنه لا يعرف كيف، ثم أمام موظف هنا، محروم من دعم يستحقه فى مواصلاته ويريد الحصول عليه، لكنه لا يعرف أيضاً كيف!
حكايتان من واقع حى، يبدو مختلفاً عما نتكلم عنه بالليل والنهار، وإذا كان لهما من معنى، فهو أننا فى حاجة إلى أن نفكر فى الدعم، وفى سواه، بشكل مختلف، لأننا فى حاجة إلى حلول مختلفة وفى حاجة إلى أن نعرف كحكومة أين بالضبط يجب أن ننفق، وأين بالضبط، كذلك، يجب أن نوفر فلوسنا لما هو أولى بها!
"المصري اليوم"