سليمان جودة
مررت فى باريس، نوفمبر الماضى، على سوق تبيع كل شىء لـ«ست البيت»، وفى طريق عودتى على السوق نفسها، بعد ساعتين، فوجئت بأن المكان صار خالياً تماماً، وكأن الأرض قد انشقت وابتلعت السوق ومعها زبائنها، ولم تكن هناك ورقة فى حجم كف اليد فى المكان الممتد بكل أرجائه!
سألت، فعرفت أن هذه السوق تنعقد كل يوم أحد، من الثامنة صباحاً، إلى الرابعة عصراً، وأنها ليست السوق الوحيدة فى أحياء العاصمة الفرنسية، وأن الفكرة فيها تقوم على أن تشترى ست البيت حاجتها، من منتجيها مباشرة، وأن ذلك يهبط بالسعر إلى النصف، أو ما هو أكثر من النصف تقريباً، وأن ذلك يقضى على الوسيط السمسار بين المنتج للسلعة، وبين مستهلكها، فهذا الوسيط عندنا، على سبيل المثال، يرفع سعر السلعة.. أى سلعة.. أربعة أو خمسة أضعاف على الأقل!.. بينما حكومتنا تتفرج عليه!
الفكرة كما ترى عملية جداً، وبسيطة للغاية، ويمكن نقلها إلينا، بدلاً من عربات الشباب التى سوف تزيد زحمة المرور، مرة، وسوف تكون مرة أخرى، محل ملاحقة، وربما خناقات مع الشباب، من جانب الباعة الجائلين، الذين يمكن أن يروا فيها قضاء على مصادر أرزاقهم.. ثم إنها، أقصد فكرة أسواق باريس المنتشرة بين الأحياء، أفضل من حكاية السلاسل التجارية الصغيرة، التى تفكر فيها الحكومة، لأن سلاسل كهذه سوف تقطع أيضاً أرزاق البقالين الصغار، وربما تحولهم فى النهاية إلى عاطلين!
إننى أضع الفكرة أمام المهندس شريف إسماعيل، ثم أمام الدكتور خالد حنفى، وزير التموين، وأظن أنها جديرة بالدراسة ثم جديرة بالأخذ بها، لو أننا فكرنا فيها جيداً، ثم فكرنا فى عائدها على قضية الأسعار بوجه عام.
وإذا سأل أحد عن الكيفية التى يمكن أن نطبق بها هذه الفكرة الباريسية عندنا، فسوف أقول إنها سوف تبدأ باختيار شارع يخدم ثلاثة أو أربعة أحياء متجاورة، ليكون هو الذى تقام فيه السوق، فى يوم محدد أسبوعياً، وخلال ساعات محددة بالدقيقة من النهار، وسوف يكون على كل بائع أن ينظف مكانه تماماً، عند مجىء موعد انفضاض السوق، وسوف تكون على عربات البلدية أن تتكفل بالباقى، ليعود الشارع نظيفاً إلى طبيعته الأولى، كما رأيت بعينى فى باريس.. فلا تكاد تصدق، وأنت ترى المكان هناك، فى الرابعة مساءً، أن سوقاً كانت هنا، أو أن زحاماً بالمئات كان يملأ المكان قبل ساعات!
ومن بين مزايا الفكرة أنها سوف تدعم المنتج ذاته، لأنه أقل الحلقات عندنا استفادة من سعر السلعة، ولأنه هو أحوج الحلقات كلها إلى دعم الدولة بجد، وهى سوف تدعمه، عندما تختار له أماكن ثابتة، ومتعددة، يبيع فيها منتجاته، أسبوعياً، وبسعر أعلى نسبياً مما يبيع به حالياً للوسيط الجشع!
لا يليق بنا أن نتعامل مع قضية الأسعار، وكأننا نحن الوحيدون، الذين نبيع ونشترى فى الكون.. إن لدى الآخرين أفكاراً جاهزة، وناجحة فى مكانها، ولا تحتاج منا شيئاً، سوى أن نتعب أنفسنا قليلاً، وننظر حولنا، ونستخدم عقولنا التى فى رؤوسنا.