سليمان جودة
فى طريقى إلى القاعة الكبرى لجامعة القاهرة، مررت أمام مبنى كلية الآداب على يمين الداخل من الباب الرئيسى للجامعة، فقرأت على صدر المبنى عبارة منقوشة من عشرات السنين تقول: هذه من آثار صاحبة السمو الأميرة فاطمة إسماعيل!
كان الدكتور جابر نصار، رئيس أعرق جامعات البلد والمنطقة، قد دعا إلى حفل للعبقرى عمر خيرت، الذى بدا لساعتين من الزمان، وكأنه الفارابى الذى قالوا عنه فى زمانه إنه كان قادراً إذا عزف الموسيقى على أن يُنيم الحاضرين، ثم يوقظهم، ثم ينيمهم، ليتركهم هكذا، وينصرف!
بدا عمر خيرت أمامى على هذه الصورة، وهو يُلهب مشاعر آلاف من الطلبة والمدعوين، ملأوا القاعة عن آخرها، وراحوا يستزيدون الرجل، ومعه أوركسترا أوبرا القاهرة بقيادة المايسترو ناير ناجى، فناً، وإبداعاً، وجمالاً!
كنت مع الآلاف، أشرب من كأس خيرت، بينما العبارة المنقوشة على صدر مبنى الآداب لا تفارق ذهنى، ولا تغيب عن عينى!
أما فاطمة، صاحبة السمو، فهى ابنة الخديو إسماعيل، وقد كانت فى عام 1908 قد تبرعت بأرض من عندها، ومجوهرات من بيتها، ومال من خزانتها، لتقيم جامعة يتعلم فيها المصريون، وكان أقل واجب نحوها، أن يجرى نقش اسمها، على صدر أهم مبانى الجامعة، لعل القادمين فيما بعد، بامتداد مائة عام وأكثر، يعرفون أن امرأة قد مرت من هنا ذات يوم، وأنها فكرت فى عصرها فلم تجد أفضل من جامعة تقدمها لبلدها، ليصل بها البلد إلى ما وصلت إليه سائر البلدان بالجامعات.. وبالجامعات وحدها.
كان العبقرى خيرت يداعب أحلام الحاضرين بأصابعه الذهبية، بينما فرقة أوركسترا الأوبرا الماسية تصاحبه، وكنت أنا من جانبى أحاول أن أستحضر صورة صاحبة السمو، لأرى بعينى الخيال، كيف كانت هيئة تلك المرأة الأميرة التى أرادت أن تعلمنا جميعاً، وتعلم كل صاحب مال بشكل خاص، أنه ليس أفضل من الإسهام فى بناء جامعة يقدمه لبلده، على أن تكون جامعة بحق.. جامعة تمنح طلابها علماً لا شهادة.. جامعة تعطيهم أفقاً مفتوحاً على أنحاء الدنيا وأرجائها، لا عقلاً مظلماً لا يرى صاحبه أبعد من قدميه!
كان العبقرى خيرت، ومعه أوركسترا الأوبرا، يشعلون حماس الشباب، وكنت أنا أحاول من جانبى أن أستجمع ملامح صورة صاحبة السمو، التى فيما يبدو، لما رأت أن أباها الخديو إسماعيل، كان يريد مصر قطعة من أوروبا، أرادت أن تعينه وتسعفه نحو ما يرغب ويريد لوطنه، فلم تجد أفضل من الجامعة الحق طريقاً إلى أن يكون أبناء وطنها واقفين على الأرض نفسها التى يقف عليها طلاب العلم فى أوروبا عموماً، وباريس خصوصاً، التى ضربها الإرهاب الأعمى هذه الأيام!.. كان الجميع فى القاعة مأخوذين إلى موسيقى خيرت، وكنت مأخوذاً إلى صاحبة السمو فاطمة، التى لايزال درسها باقياً لكل صاحب مال وأعمال، يسعى حقاً لأن يضيف إلى بلده ما يجعله فى مكانة تليق به، ثم بنا!
نقلاً عن "المصري اليوم"