سليمان جودة
تجربة الأيام القليلة التى قضيتها فى بولندا تقول إن الدولة البولندية، التى لا يفصلها عن روسيا شرقاً إلا أوكرانيا، قد استطاعت أن تتخلص من قبضة الاقتصاد الاشتراكى، فى عدد من السنوات لا يمثل شيئاً إذا ما قيس بأعمار الدول، وليس أدل على ذلك سوى أنها الآن عضو فى الاتحاد الأوروبى بجلالة قدره، وقد مضت على عضويتها فيه 12عاماً كاملة!
لقد جاء وقت على بولندا، وكان ذلك فى ختام الحرب العالمية الثانية عام 1945، كانت فيه العاصمة وارسو تتلقى ضربات قاسية من الاتحاد السوفيتى، من جهة الشرق، ومن هتلر فى ألمانيا، من جهة الغرب، وفى توقيت واحد، لدرجة أن 80% من أحياء العاصمة كلها قد تم تدميرها تماماً، والذين عاشوا تلك الأيام، أو رأوا العاصمة بعد قصفها، أو قرأوا عما جرى لها، يعرفون أن طوبة واحدة فيها لم تكن فوق طوبة أخرى!
وعندما تتمشى اليوم فى وارسو، لا يمكن أن تصدق أن هذه المدينة الجميلة، والنظيفة، ذات الشوارع الفسيحة، والميادين الواسعة، قد كانت ذات يوم هدفاً لقصف متزامن من مدافع هتلر، فى برلين، ومدافع ستالين، فى موسكو!
هذا عن المبنى، فماذا عن المعنى؟!.. أو أن هذا عن الحجر، فماذا عن البشر؟!
عرضوا أمامنا رسماً بيانياً فى مدينة «كراكوف»، التى كانت عاصمة للبلاد ذات يوم، ثم صارت المدينة الثانية، حجماً وأهمية، بعد العاصمة وارسو، وكان الرسم البيانى يبين أعمدة طولية، وكان كل عمود فيها يوضح حجم الإنفاق العام على كل خدمة عامة، بالمقارنة بغيرها من الخدمات المقدمة من الحكومة للناس، فكان عمود التعليم هو أعلاها على الإطلاق، بما لا يمكن مقارنته بأى عمود مجاور آخر! وكان معنى ذلك أن حكومات بولندا المتوالية منذ سقوط الاتحاد السوفيتى، عام 1991، ومنذ سقوط سور برلين الفاصل بين أوروبا الشيوعية وأوروبا الرأسمالية، عام 1989، قد أدركت بكل وعيها، أن بناء الحجر الذى تحطم فى وارسو، كاملاً، لا يكفى، وأنه لابد.. لابد.. من بناء يتوازى معه للبشر!
والحكومات المتعاقبة عندهم لم تدرك هذا وفقط، وإنما انتبهت إلى شىء آخر أهم، هو أن الإنفاق العام العالى على التعليم، كما رأيته بعينى فى العمود البيانى إياه، ليس كافياً وحده، لأن الإنفاق من هذا النوع، إذا لم يكن يتم وفق رؤية تحدد الأهداف المرجوة من ورائه، فإنه يظل إنفاقاً فى العموم، ويظل إنفاقاً بلا هدف، ويظل إنفاقاً غير مضمون النتائج، ولذلك، فإنفاقهم المرتفع على التعليم محدد مسبقاً بأهداف يسعى دائماً لبلوغها!
بولندا، كتجربة، قريبة منا، وهى تتحول سياسياً واقتصادياً، بامتداد سنوات مضت، ثم إنها صاحبة تجربة ناجحة فى هذا التحول من اقتصاد، كانت الحكومة تملك وتدير فيه كل شىء، إلى اقتصاد حر، ومفتوح، تراقب فيه الحكومة كل شىء أيضاً، وتنظمه، وتضمن أن تصب عوائده فى صالح المواطن، وفى صالح مستوى حياته، وفى صالح آدمية الخدمات العامة التى من حقه أن يحصل عليها من حكومته.
وهى، فى الوقت ذاته، صاحبة تجربة فى الحكم المحلى، تمنح محافظاتها الـ16 درجة كبيرة من الاستقلالية، وتضع فى اللحظة ذاتها عيناً مفتوحة على آخرها، من العاصمة، على كل إقليم أو محافظة، فتتصرف المحافظات باختصاصات واسعة وواضحة، بينما عين الحكومة فى العاصمة تراقب باهتمام، ومن بعيد، وتعيد الأداء العام لصوابه كلما انحرف!