سليمان جودة
تخطئ الخارجية المصرية تماماً، إذا تصورت، كما جاء فى بيانها المنشور فى الصحف، صباح أمس، أن رئيس الوزراء التركى أردوجان جاهل بحقائق الواقع السياسى المصرى، منذ ثورة 30 يونيو، ثم راحت تخاطبه فى بيانها على هذا الأساس!
تخطئ هى، ونخطئ نحن إذا تصورنا ذلك، ولو للحظة واحدة، لأن أردوجان يعرف بشكل كامل ماذا جرى عندنا، منذ ذلك التاريخ إلى اليوم وبالتفاصيل.. يعرفه ربما أكثر مما يعرفه بعضنا، وهذا بالضبط هو سر أزمته، ومأزقه، ومأساته!.. ولذلك، فمعرفته هى أساس مشكلته، وليس جهله!
والمشكلة عنده، إذا أردنا تشخيصاً دقيقاً لها، أن ما يعرفه فى هذا السياق يوجعه، ويؤلمه، ويحوِّل منامه على مدى أكثر من عام إلى كوابيس تزوره باستمرار، وتطارده كما لم تطارده كوابيس من قبل!
نخطئ إذا تصورناه جاهلاً بحقائق واقعنا السياسى بامتداد عام وأكثر، لأنه أول من يعرف أن الإخوان أسقطوا أنفسهم فى 30 يونيو 2013، قبل أن يسقطهم المصريون، وهذا بالضبط، ما يؤلمه، لأنه كان يراهن عليهم، كما يراهن على حياته نفسها، فإذا بهم بحماقة اشتهروا بها يخذلونه، كما خذلونا نحن كمصريين بالضبط!
أردوجان، كما نعرف، يدق أبواب أوروبا منذ سنين، أملاً فى أن يصبح عضواً فى الاتحاد الأوروبى، وقد كان فى كل مرة يطرق باب الأوروبيين، يجد صدوداً، ورفضاً، وربما سخرية، ولم يكن ييأس، وكان يحاول دائماً من جديد، حتى جاءت عليه لحظة اعتقد فيها أن مشروعاً بديلاً فى محيطه العربى والإسلامى يمكن أن يعوضه عن الحلم الأوروبى الذى لا يسعفه والذى لا يريد أن يتحقق!
وهنا، استدار الرجل من اتجاه أوروبا، فى الشمال، إلى بلادنا نحن فى الجنوب، وتصوَّر لسذاجة فى عقله أن مشروعه الأوروبى، الذى كان يتبدد فى كل مرة أمام عينيه، يمكن أن يجد له تجسيداً بديلاً على أرضنا نحن!
الغريب فى الأمر حقاً أن الإخوان، لأنهم حمقى بطبائعهم، لم يلتفتوا إلى حقيقة هدف أردوجان، من وراء مساعدتهم ليكونوا فى الحكم فى القاهرة.. وإذا شئنا حسن النية منهم، وهو أمر يستبعده كل من يعرفهم، تصورنا أنهم لم يكونوا يعرفون، وهذا هو المستحيل بعينه، لأن الواقع يقول إنهم كانوا يعرفون، وإنهم لم يكونوا يمانعون أن يكونوا مجرد أداة لأردوجان، وأن يكونوا مطية لأسياده، وأسيادهم الأمريكان، فالمهم أن يصلوا هم، كإخوان، إلى الحكم، وأن يبقوا فيه، ولا اعتبار بعد ذلك من جانبهم لشىء، بما فى ذلك هذا الوطن نفسه بكل كيانه، وحدوده، وأرضه!
هو، إذن، كان يبحث بعد أن يئس من دخول الاتحاد الأوروبى، عن مطية يركبها، ليحقق بها أحلاماً قديمة تداعب خياله فى منطقتنا، وقد وجد فى الإخوان كل شروط ومواصفات المطية التى ظل يبحث عنها طويلاً، فامتطاها، وراح يقطع بها الطريق نحو مشروع لبلاده يريده بأى ثمن، حتى ولو كان هذا الثمن على حسابنا نحن، ومن جيوبنا نحن، ومن وطننا نحن!
كان هو يرتب أمره، على هذا الأساس، طوال عام للإخوان فى الحكم، وكان يفرك يديه فرحاً فى كل صباح، وهو يجد مشروعه وقد بدأت ملامحه تتشكل، وكان يفرك عينيه ليتأكد من أن ما يراه حقيقة، وليس خيالاً، وكان.. وكان..!
وفجأة.. تلقى أكبر صدمة فى حياته كلها، عندما استيقظ فى 30 يونيو على واقع جديد تبناه المصريون بأنفسهم، وأسسوا له بإرادتهم.. واقع كشف كل أوراقه هو، وألقاها للرياح تذروها، وتلهو بها.. واقع بدد حلماً عاش الرجل عليه، ولم يكن عنده بديل له، ولا عنده شىء غيره.. واقع جعله يقف عارياً فى المنطقة كلها!.. واقع قال، ويقول، وسوف يظل يقول، إن مصر كانت، وستظل للمصريين، لا للإخوان، ولا للذين امتطوهم من أمثال أردوجان!
هل نتصوره جاهلاً بعد هذا كله؟!.. إنه رجل مأزوم، وموجوع، ولا يعرف ماذا عليه أن يفعل، وقد انهار كل شىء بين يديه، فراح يتخبط كمن أصابه مس من شيطان، وراح منذ تلك اللحظة الفارقة، يتصرف تصرف الإنسان الذى لم يعد فى رأسه عقل.. فاعذروه!