سليمان جودة
يمكن القول بأن الحروب الإسرائيلية المختلفة على قطاع غزة، مرت بثلاث مراحل: مرحلة ما قبل وصول الإخوان إلى الحكم في القاهرة، ومرحلة وجودهم في الحكم، ثم مرحلة ما بعد سقوطهم في 30 يونيو (حزيران) 2013.
في المرحلة الأولى، كانت مصر بالأساس معنية، من خلال رئيسها الأسبق حسني مبارك، ورئيس مخابراته عمر سليمان، بوقف الحرب مرة بعد مرة، وبأي طريقة، وربما نذكر جميعاً الآن، أن عدواناً إسرائيلياً على القطاع، كان إذا بدأ في تلك المرحلة، فإنه كان يجد نشاطاً سياسياً مصرياً محموماً، وموازياً، من جانب «مبارك» ومعه «سليمان» لوقف العدوان، عند أول محطة يصل إليها.. وكانت الجهود المصرية، ومعها جهود عربية مخلصة بالطبع، تنجح في كل مرة، في كف يد الاعتداء عن أبناء القطاع، وكان الأبرياء على الجانب الفلسطيني، هم الثمن في كل حرب!
ولم تكن القاهرة تفعل ذلك، في وقته، ولا الآن، ليقال عنها إنها فعلت، وإنما كانت تفعله من منطلق إيمانها بمسؤولية قومية تجاه القضية كلها، بوجه عام، وتجاه أهل غزة الأصلاء بوجه خاص. وكانت مصر تمارس دورها في هذا السياق، وهي تتمنى من أعماق كيانها، أن يأتي يوم قريب تكون فيه القضية، قضية واحدة، بدلاً من أن تكون قضيتين: واحدة في الضفة، وأخرى في القطاع.. غير أن حركة «حماس» كانت تقف عقبة في سبيل تحقيق مثل هذا الهدف، بكل أسف!
وكان واضحاً، أن تل أبيب كانت تتخذ من مثل هذا الانقسام، ذريعة لأن تبقى القضية معلقة في مكانها لا تبرحه، ولم يكن الإسرائيليون يُخفون ذلك، وإنما كانوا يقولون علناً، وفي مناسبات كثيرة، إنهم لا يعرفون مع مَنْ بالضبط سوف يتكلمون: هل مع محمود عباس في رام الله، أم مع الحركة الإخوانية في غزة، ثم كانوا يذهبون لأبعد من هذا، حين يقولون إنهم متخوفون من أن الوصول إلى حل، مع أبو مازن - مثلاً - يمكن أن يكون موضع رفض من «حماس».. والعكس صحيح!
وكان أي إنسان عنده ذرة من عقل في رأسه، قادراً على أن يدرك بسهولة، أن وجود «حماس» في الأصل، كان الهدف منه هو هذا بالضبط: أن تبقى القضية في مكانها، وإذا بقيت في مكانها، فإن ذلك وحده كفيل بتآكلها وتآكل الأرض معها، بمرور الوقت والزمن!
هذا ما جنته الحركة الإخوانية الشهيرة بـ«حماس»، على القضية، بكل وضوح!
وفي المرحلة الثانية، من مراحل الحروب المتوالية على القطاع، وكان ذلك في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، فإن الأصل من الجماعة الإخوانية، كان في الحكم في القاهرة، وكان الفرع يمثل امتداداً له في غزة، وعندما اندلعت الحرب في ذلك الشهر من ذلك العام، فإن الرئيس الإخواني محمد مرسي قد تدخل لا ليوقف العدوان على الفلسطينيين من أبناء القطاع، وإنما فعلها ليحقق العكس، أي وقف إطلاق صواريخ حماس باتجاه إسرائيل!.. وقد نال يومها عدة جوائز على جهده في حماية الإسرائيليين من عبث الفرع الإخواني في غزة، وهي جوائز بدأت بأن «أوباما» قد هاتفه بنفسه ليشكره، ومرت بأن وضعت مجلة «تايم» الأميركية صورته على غلافها، ووصفته بأنه أقوى رجل في الشرق الأوسط، وانتهت بأن تغاضت واشنطن عن إعلانه الدستوري الكارثي، الذي صنع من نفسه به إلهاً، وكأن الإدارة الأميركية بسوء نياتها وانعدام قيمها، كانت تقصد منذ البداية، أن تجعله يشعر بقوة زائفة، فيتصرف على أساس ذلك دون إحساس بمسؤولية، فيسقط.. وهذا ما حدث!
وفي المرحلة الثالثة، دارت الحرب الأخيرة على غزة، بينما إخوان القاهرة في قفص الاتهام يواجهون عقوبات تبدأ من المؤبد، وتصل إلى الإعدام، ومما يلفت الانتباه في هذه الحرب الأخيرة، أن التعاطف العربي الشعبي خلالها مع الغزاويين، في مواجهة الوحشية الإسرائيلية، لم يكن على المستوى الذي كان عليه من قبل!
صحيح أن مبادرة مصرية انطلقت الثلاثاء الماضي لوقف العدوان، وصحيح أن القاهرة أرسلت 500 طن من المواد الغذائية والدوائية، وصحيح أن رئيس المخابرات المصري قد زار تل أبيب، وصحيح أن الرئيس السيسي حذر مراراً من التصعيد المتبادل لإطلاق النار.
صحيح هذا كله، ولكن ما لا يجب أن ننكره، أن هذه المرحلة الثالثة من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة قد جاءت في وقت تبين فيه لشعوب كثيرة في المنطقة، على مدى عام من حكم الإخوان في مصر، إنهم إذا كانوا هم الأصل المتآمر، فإن حماس على الحدود المصرية الشرقية، هي الفرع الذي لا يخلص فقط للأصل حيث هو، وإنما يأتمر بأوامره في العبث بالأمن العربي في عمومه.
كان الرأي العام العربي، ثم المصري، يتابع أنباء العدوان، وهو بين نارين: نار «غصة» في حلقه، من ممارسات الأصل والفرع معاً، ووقوفهما مع الإرهاب، المتأسلم، والعنف باسم الدين، صفاً بصف، ثم نار الرغبة في فعل أي شيء من أجل حماية فلسطينيين أبرياء في غزة، لا علاقة لهم بفرع، ولا بأصل، فكل واحد فيهم فلسطيني وفقط، غير أن عينه في مواجهة سيطرة الحركة الإخوانية على القطاع، كانت بصيرة، بمثل ما كانت يده قصيرة!
وكم كان ثمن رضا أبناء القطاع، بحكم حماس، ووجودها بينهم وفوقهم، فادحاً، ولكن الثمن الأفدح في ظني، كان عندما أيد مجلس النواب الأميركي، الحرب الإسرائيلية الأخيرة عليهم.. وبالإجماع.. ولم يكن لهذا «الإجماع» من معنى، سوى أن النواب الأميركيين، يرون بلا استثناء أن غزة كلها «حماس».. وهو الخطأ الذي لا يُغتفر، لأن غالبية أبناء القطاع تتمنى لو أغمضت أعينها، ثم فتحتها، فلا تجد للحركة الإخوانية أي أثر على الأرض، والراجح أن لحظة كهذه، سوف تجيء.. قد تتأخر بعض الوقت.. ولكنها حتماً سوف تجيء!