بقلم سليمان جودة
خلاصة ما جئت به من بولندا، بعد زيارة دامت أياماً، أن هناك رجالاً يخططون لمستقبل بلد، على مدى عقود قادمة من الزمان، وأننا هنا نعيش يوماً بيوم.. وأكاد أقول ساعة بساعة.. ولذلك يقفون حيث هم، ونقف نحن فى المقابل حيث نحن، على المستوى الاقتصادى تحديداً، لأنه مستوى فى ظنى يظل حاكماً لكل مستوى آخر يسبقه، أو يتلوه.. وإذا شئت دليلاً فاحسب سعر العملة هنا، وسعرها هناك، وسوف ترى!
إننى بعد كل ما رويته، عن تجربتهم مثلاً فى التخلص من القطاع العام الخاسر، بطريقة مدروسة، وآمنة، وغير ظالمة لأى من العاملين فيه، قرأت لرئيس وزرائنا أنه لا بيع للقطاع العام!.. قالها المهندس شريف إسماعيل، قبل يومين، فى لقاء بينه وبين عدد من نواب البرلمان وكأنها مما يفتخر به أى رئيس وزراء، ثم كأنه أراد أن يشترى خاطر النواب الذين اجتمع بهم، على حساب بلد بكامله، وعلى حساب اقتصاد بلد، بلغ فيه سعر الدولار أمام الجنيه ما بلغ، ولايزال يبلغ، لأسباب كثيرة، من بينها أن الحكومة لاتزال تصرف أرباحاً للعاملين فى شركات خاسرة!
لن أعيد بالطبع ما قلته عن التجربة البولندية، فى التعامل مع القطاع العام تحديداً، فلقد رويت أطرافاً منها، يوماً بعد يوم، لعل الذين يعنيهم الأمر عندنا، ولعل الذين يغارون على اقتصادنا، يأخذون بما يفيدنا فيها، وما يفيدنا فيها كثير، ولا يحتاج سوى إلى عقول مفتوحة عندنا على الدنيا، لنبدأ من حيث انتهت هذه الدنيا من حولنا، بدلاً من أن نظل فى كل مرة نبدأ من عند الصفر!
كانت بولندا، وهى خارجة من تحت الحكم الشيوعى عام 1991، تضم 49 محافظة، وكان أن أدركت أن هذا التقسيم الإدارى القديم لا يناسبها، وكان أن قرروا اختزال الـ49 محافظة فى 16 محافظة فقط، ثم كان أن وضعوا نظاماً للحكم المحلى قفز بمستوى الأداء العام أميالاً إلى الأمام، وهو نظام يقوم على مستويات ثلاثة: محافظات أو أقاليم، ثم مقاطعات، ثم بلديات، وجميع المسؤولين على المستويات الثلاثة منتخبون، وعندهم مساحة من الاستقلالية فى التصرف نحن أحوج الناس إليها إذا كنا حقاً نريد للمحافظ أن ينجز شيئاً فى محافظته، لا أن يأتى محافظ، ويذهب آخر، ليبقى الحال السيئ فى المحافظات على حاله.. بل إنه يزداد سوءاً!
إننى أعرف أن هناك لجنة جرى تشكيلها بقرار من رئيس الحكومة، لإعداد مشروع قانون المحليات، وإذا قررت اللجنة أن تنظر فى تجربة المحليات البولندية فسوف تجد فيها فائدة كبيرة، وسوف تضيف لها ما يجعل محلياتنا القادمة أنجح مما سبقتها، لكن المهم أن تكون هناك إرادة سياسية حقيقية فى هذا الاتجاه!
المهم أن تكون هناك إرادة من هذا النوع، لأنى أحس بصراحة أن تعطيل المحليات مقصود، لإلهاء نواب البرلمان فيما يجب أن يقوم به أعضاء المحليات، ولإبعاد البرلمان، بالتالى، عن الرقابة الحقيقية على أعمال الحكومة، وعن التشريع الحقيقى للقوانين.
مُحزن للغاية أن تسافر فترى فى بولندا، أو فى غير بولندا، بلداً بالمعنى المتعارف عليه لكلمة «بلد».. وأن تعود لتنتبه فى كل مرة هنا إلى أنه لا بلد!