سليمان جودة
ترك الدكتور نعمان جمعة وصية مكتوبة من بعده، تقول إنه يرغب فى ألا يُقام له سرادق عزاء، وألا ترتدى أسرته السواد، وألا تنشر الصحف له نعياً.. وقد أعلنت الأسرة التزامها الكامل بما أوصى.
السؤال هو: لماذا ترك الرجل وصية من هذا النوع، ولماذا نأى بنفسه وبأسرته عن السرادقات التى يتسابق الناس هذه الأيام، ليس فى إقامتها وفقط، وإنما فى الإعلان عنها، بل والمبالغة فيها إلى حدود تثير الدهشة والعجب، ثم ما هو أبعد وأعمق من الدهشة والعجب؟!
تقديرى أنه على مدى حياته، قد عاش وعايش مثل هذه السرادقات، وأنه كذلك قد رأى وراقب سطور النعى والعزاء التى تنشرها الصحف فى كل يوم، فاكتشف أن السرادقات تنعقد لأى شىء، وكل شىء، إلا أن تنعقد لعزاء حقيقى وصادق، وأن سطور النعى فى الجرائد لا تنشط، ولا تنتشر، ولا تملأ الصفحات، إلا إذا كان الشخص الذى رحل قد ترك من ورائه ما يمكن أن يمثل منفعة أو مصلحة للذين يعزون.. وما عدا ذلك إنما هو استثناء نادر للغاية، ولا نراه إلا فى أقل القليل.. هذا إن رأيناه فى لحظة يكون فيها لوجه الله.
وقد وصل الحال فى هذا الاتجاه إلى حد أن طبيباً عظيماً كان قد رحل، قبل سنوات، وكان له خال من بين وزراء الحكومة وقتها، فراح المنافقون يتسابقون فى تقديم واجب العزاء فى صفحات طويلة وعريضة، وكان كل واحد لا يذكر مطلقاً أن الرجل كان طبيباً عظيماً، أو أنه بلغ فى طبه وفى مهنته مكانة عالية، أو أنه كان صاحب اسم رنان فى الطب.. لا.. فكل هذا لم يستوقف أحداً، ممن أرادوا أن يقدموا واجب العزاء يومها، ولقد استوقفهم فقط أن الفقيد هو ابن شقيقة الوزير الفلانى، فكانوا يضعونها فى برواز وبالبنط العريض..! وقد كانت حكاية لافتة جداً فى وقتها، وكانت تدعو للحياء والخجل، ثم الألم، الذى لم يكن بسبب فراق الطبيب، بقدر ما كان بسبب ما قيل فى نعيه من بعده!
أما سرادقات العزاء، التى أراد الدكتور نعمان أن يتبرأ منها، وأن يغسل يديه مما يحدث فيها، فإنها قصة أخرى.. إذ لا علاقة لها فى صورتها الحالية فى القاهرة بعزاء، ولا بفقيد رحل، ولا بشخص مات.. إنها عبارة عن مجلس نميمة كبير، وتصل الرغبة فى ممارسة النميمة خلالها إلى درجة مزعجة، وإلى درجة تجعل مقرئ القرآن يتوقف أحياناً عن القراءة، ويطلب من الحاضرين أن ينصتوا لما يقول، أو أن ينصرفوا!.
سرادقات عزاء القاهرة هذه الأيام، رآها الدكتور نعمان فى حياته مراراً، ولابد أنه بعد أن رآها قد أراد ألا تكون بينه وبينها صلة إذا جاء موعده ليلقى فيه ربه.. لقد رأى قطعاً كيف أن الحاضرين ينخرطون فى تبادل الأحاديث، بل وفى رواية النكات أحياناً، بينما مقرئ القرآن يتطلع إلى القاعة ويمسحها بعينيه، بعد كل آية يتلوها، ثم يتميز غيظاً، وربما قرفاً مما يراه!.
رأى الدكتور نعمان قطعاً أن كثيرين ممن يذهبون للعزاء لا يذهبون ليعزوا فى واقع الأمر، وإنما يفعلون ذلك ليقال عنهم إنهم ذهبوا، ويفعلون ذلك لتلتقط لهم الكاميرات صوراً وهم يعزون، إذا كان العزاء لشخصية سوف تتزاحم الكاميرات على تسجيل سرادق عزائه، وما جرى فيه!
سرادقات عزاء هذه الأيام لا علاقة لها بعزاء ولا بقرآن يتلوه المقرئون فيها، ولا بواجب يتعين تقديمه هناك، ولا بخواطر لابد من تطييبها على بابها، ولا بأحزان ينبغى أن يتشارك الناس فيها، فى تلك القاعات، ولا.. ولا.. إلى آخره.. وإنما لها علاقة بشىء واحد وأساسى هو النفاق والنميمة، ثم النفاق والنميمة، ثم النفاق والنميمة.. ولا شىء سواهما!
رأى الدكتور نعمان هذا كله، وراقبه عن قرب، وتابعه، ولابد أنه قد أدهشه، وأحزنه، فأراد، يرحمه الله، برغبة خالصة منه، وبيديه، أن يخلو طريقه إلى الله من النمامين ومن المنافقين، وقرر أن يحرمهم من ممارسة هواية لم تعد السرادقات تنعقد إلا لها!