توقيت القاهرة المحلي 12:25:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

استدارة «النواس العظيم»

  مصر اليوم -

استدارة «النواس العظيم»

بقلم:حسام عيتاني

الإضرابات التي تشهدها بريطانيا منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تذكر بأجواء منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا وأميركا الشمالية. ذاك أن الحل الذي تروّج له حكومات المحافظين للخروج من الركود والتضخم اللذين أعقبا وباء «كوفيد - 19» يتطلب «زيادة الإنتاجية» على ما أبلغ وزير الصحة ستيف باركلي، ممثلي النقابات الذين التقاهم.
موقف الوزير البريطاني استعادة باهرة لطريقة في التفكير (والعمل) لا تقيم وزناً حقيقياً لقوى الإنتاج وتلح في الوقت ذاته على إبقاء شبكة أمان للمجتمع لمنع انهياره. بكلمات ثانية: على موظفي القطاع الصحي أن يتحملوا ساعات عمل لا نهاية لها وتدفقاً مستمراً للمرضى بإمكانات وموارد لا تني تتناقص وتضمحل بسبب سياسة التقشف الصارمة.
بيد أن الإضرابات هذه ليست سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد الذي يختبئ تحت ماء التغيرات الدولية التي أسهم الوباء في تظهيرها ودفعتها الحرب الروسية في أوكرانيا دفعة قوية إلى الأعلى. فالنموذج الذي يجري التركيز عليه حالياً يرتكز على الوظائف التي لا تُلزم رب العمل بأي ضمانات أو حماية للموظفين. وهذا ما تحاول بعض الحكومات نقله من القطاع الخاص إلى ما تبقى من قطاع عام، على غرار النظام الصحي البريطاني.
ويدعم التغيير العميق هذا في علاقات العمل رهان قسم من أصحاب العمل على تحقيق الذكاء الصناعي والجيل الجديد من الروبوت المعادلة الذهبية: جني أرباح طائلة من كلفة شبه معدومة وفي ظل غياب تام لأي مسؤولية اجتماعية.
تفسير هذه الظاهرة التي تتعمم في العالم وتنتقل من الدول الصناعية الكبرى إلى تلك النامية والأقل نمواً، يكمن في اختلال التوازن ضمن الأنظمة السياسية القائمة على مقولات الليبرالية - الديمقراطية. فليس سراً أن الصيغة الليبرالية - الديمقراطية التي أرسيت بعد الحرب العالمية الثانية وأتاحت «للنواس الاقتصادي العظيم» (Great economic pendulum بحسب تعبير الاقتصادي بول دي غروي) العودة من الانفلات الكامل لرأس المال الذي تسبب في «الركود الكبير» في عشرينات القرن الماضي، وشكل أحد أسباب الحرب المذكورة، إلى استدارة «النواس» والتحول نحو إتاحة المزيد من التدخل للدولة في ضبط علاقات العمل وضمان حقوق المنتجين على حساب أصحاب رؤوس الأموال الكبرى.
التهديدات القاتلة التي تواجهها الليبرالية - الديمقراطية (وهي ليست - بالضرورة - النموذج الأمثل والنهائي لما يمكن للبشر أن يصلوا إليه في تنظيم وإدارة اجتماعهم)، تتركز في القسم «الديمقراطي» إذا جاز القول من المعادلة. وليس صدفة أن تتعرض المؤسسات التي ترمز إلى الديمقراطية إلى الهجوم المباشر على غرار ما جرى في البرازيل أخيراً على أيدي مندوبي اليمين المتطرف. فالديمقراطية، في النموذج السياسي الحالي، هي المنوط بها حماية المجتمع ومواجهة الضغوط الهائلة التي يتعرض لها لاستخراج أقصى ما يمكن من عائدات ولو عن طريق تدمير البيئة التي تحتضن البشر. وهذا بالضبط ما حاولته الحكومة السابقة في البرازيل من خلال الهجوم على غابات الأمازون.
والشيء بالشيء يذكر أن اقتصاديين آخرين استخدموا فكرة النواس في تشبيه حركة السوق بين حدين أقصيين من البطالة والتضخم إلى أن تعود السوق في نهاية المطاف إلى نوع من الاستقرار بفضل قوانين الاقتصاد الرئيسية.
من جهة ثانية، ما زال صدى النعي المتكرر منذ ثمانينات القرن الماضي لدور الدولة في المجتمع والاقتصاد، الذي مثل الرئيس الأميركي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر نجميه الساطعين، يتردد في العديد من القوى السياسية التي لا يندر أن تصل إلى الحكم. وتعي القوى هذه أن أزمة الديمقراطية الحالية وصعود الشعبويتين اليمينية واليسارية أن المجتمع سيرد على محاولات تطويقه وإخضاعه. وتتخذ ردود المجتمع أشكالاً شتى منها رفض الانخراط في سوق عمل ظالمة وعدمية في ظاهرة انتشرت بعد الوباء وأدهشت المحللين الاقتصاديين الذين راقبوا النقص الحاد في عدد طالبي العمل في قطاعات ترغم المشتغلين فيها على ما يشبه العبودية في الرواتب والضمانات، على ما يقول دعاة إحياء العمل النقابي في الولايات المتحدة على سبيل المثال.
في الدول النامية أو الأقل نمواً، تزداد مأساوية المشهد بالنظر إلى هشاشة آليات الدفاع المجتمعية وسهولة اختراقها والالتفاف عليها على ما نشهد في لبنان منذ ثلاثة أعوام ونيف؛ حيث نجح تحالف من السياسيين الفاسدين تحميه قوى أهلية مسلحة في إجهاض كل محاولة إصلاحية وفي فرض استنقاع شامل والقضاء على آمال أجيال بكاملها في العيش الكريم.
المجتمعات التي لم تصبها هذه الآفة كلياً ما زالت تحاول إدارة حركة «النواس العظيم» صوب مصالحها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

استدارة «النواس العظيم» استدارة «النواس العظيم»



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:05 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
  مصر اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon