توقيت القاهرة المحلي 05:49:19 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مبارزة الشرعيات غير المتكافئة

  مصر اليوم -

مبارزة الشرعيات غير المتكافئة

بقلم : حسام عيتاني

الحراكان السوداني والجزائري؛ سواء كانا عوداً على بدء الثورات العربية، أو مرحلة جديدة تختلف عما شهدته الأعوام الماضية من مساعٍ باء أكثرها بالفشل للخروج من المأزق التاريخي العربي، إلا إنهما يشيران إلى الأزمة القائمة والمستمرة في بنى جل الدول والمجتمعات في هذه المنطقة.
التحذير مما يجري في البلدين العربيين الأفريقيين الكبيرين، والتهويل بما أصاب سوريا واليمن وليبيا وغيرها من دمار وغرق في حروب أهلية وكوارث إنسانية، وتقديمه على أنه مسار وحيد للأمور، يختزل فهم التاريخ بالعبارة المدرسية شحيحة الذكاء عن أن التاريخ «يقدم الدروس والعبر» للأجيال المقبلة حتى لا تكرر الأخطاء السابقة. في واقع الأمر، لا يبالي التاريخ كثيراً بمن يستخلص العبر وبمن يسير في الدروب ذاتها المفضية إلى الهاوية. فالتاريخ يقترح طرقاً مختلفة تتشارك كلها في غموض المآلات، وتمضي كل تجربة في طريق حتى نهايته التي تقررها جملة ظروف سياسية واقتصادية وثقافية ودولية متداخلة ومعقدة. وما فشل في سوريا ليس بالضرورة أن يلقى المصير ذاته في السودان. يضاف إلى ذلك أن الأحداث والثورات والانتفاضات التي شهدتها الدول العربية في الأعوام الثمانية الماضية، أدت في إخفاقها المأساوي إلى تسليط الضوء على حقائق كانت غالباً موضع تجاهل واستخفاف.
من الحقائق التي تشكل إحدى سمات الأزمة العربية هي أن الرفض (رفض النظام والحاكم والسلطة) أوضح كثيراً من الطلب (طلب العدالة والحريات العامة والديمقراطية)، وفي كل مرة كانت المعارضة تحقق إنجازات سواء في فرض تنحي الحاكم أو فك سيطرته عن مناطق واسعة من البلاد، كانت الفوضى والتطرف والتدخل الخارجي الكثيف تتولى القضاء على أي وجه إيجابي من وجوه التخلص من الاستبداد.
دعونا لا نعود إلى السجال القديم عن دور أنظمة الاستبداد في تجويف المجتمعات والقضاء على القوى القادرة على تشكيل بدائل سياسية، وعن أن «الإسلام الجهادي» صنيعة هذه الأنظمة التي وجدت نفسها في حال اتفاق موضوعي مع خصومها الجهاديين للقضاء على الثورات وعلى المضمون العدالتي - الديمقراطي فيها. فهذا التشخيص، على صحته، يظل جزئياً ما لم يأخذ في الاعتبار أن المبارزة التي شهدتها بلدان الثورات العربية بين شكلين من الشرعية؛ شرعية النظام القديم وممارساتها القائمة على تحالفات راسخة طائفية وقبلية في مكان وبيروقراطية طبقية في مكان آخر، وشرعية ثورية تستند إلى مطالب الحرية والعدالة والديمقراطية، لم تكن مبارزة متكافئة وانتهت إلى هزيمة قوى الثورة.
لا معنى هنا لاستعادة مقولات الطليعة والجماهير المعبأة والواعية لمصالحها وفق برنامج تغيير واضح. جلي أن الأمور لم تكن يوماً في عالمنا العربي بهذه التراتبية أو الميكانيكية؛ بل كانت دائماً مفتوحة على الولاءات الأهلية التي تستطيع فيها بنى النظام القديم المناورة واكتشاف الثغرات وإخماد مطالب التغيير بعد إلصاق صفات الإرهاب والعمالة والخيانة بها.
وقد يكون من العسف حض المطالبين بعدم ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة أو باستقالة الرئيس عمر حسن البشير، بوضع تصور لشكل الحكم الذي يريدون إقامته في بلديهم في المستقبل القريب. لكن من المهم الانتباه إلى أن شرعيات الأنظمة القائمة قابلة للاستمرار إلى ما لا نهاية ما لم تبرز شرعية بديلة عند قوى الاحتجاج والاعتراض تزيد على إرادة إسقاط النظام الذي بات قسم من شرعيته يقوم على غياب البديل. وليس سراً أن البدائل التي ظهرت في بلدان الثورات العربية والمتمثلة في تنظيمات «الإسلام السياسي» و«الجهادي» فشلت فشلاً ذريعاً في بناء أي شرعية بديلة، في حين أن القوى والشخصيات الليبرالية والديمقراطية انكفأت سريعاً أمام عنف «الإسلام السياسي» واستعداده لاستخدام أساليب القمع والاستبداد بقسوة لا تقل عن تلك التي كانت تمارسها الأنظمة السابقة.
وثمة مشكلتان متوازيتان في النظر إلى المستقبل العربي: الأولى هي الاعتقاد بأن بقاء الدولة العربية بشكلها الحالي، قدر لا رادّ له، وأن مجتمعاتنا راضية بما هي عليه بسبب سوء البدائل وبؤسها. والثانية تتلخص في الظن بأن الثورات العربية قد انطلقت، وأن الإخفاقات السابقة ليست سوى نكسات مؤقتة على طريق التغيير والدليل على ذلك ما يجري اليوم في السودان والجزائر.
والحال؛ أن التاريخ يستمتع بالمفاجآت فيظهرها في الأوقات والأماكن غير المتوقعة على نحو يدهش دارسيه والقائلين بالحتمية وبالقوانين الناظمة لسيرورته. وإذا كان من دروس وعِبر يمكن استنتاجها من الثورات العربية في هذا العقد، فهي أن معرفتنا بمجتمعاتنا ودولنا أقل كثيراً من أن يتنطح أيٌ كان لإطلاق أحكام مبرمة، ليس حول ما سيجري؛ بل أيضاً حول ما حدث في الماضي القريب وما زال طرياً وحياً في الذاكرة.

 

نقلا عن الشرق الاوسط

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مبارزة الشرعيات غير المتكافئة مبارزة الشرعيات غير المتكافئة



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon