توقيت القاهرة المحلي 19:39:50 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الحق في الديمقراطية وفي مساءلتها

  مصر اليوم -

الحق في الديمقراطية وفي مساءلتها

بقلم: حسام عيتاني

انتزع الرئيس فلاديمير بوتين من الأفغان الحق في اختيار نظام الحكم الذي يناسبهم في معرض انتقاد لمحاولات الغرب فرض نموذجه من الديمقراطية. لكن إبقاء شعوب العالم الثالث أسرى «تقاليدهم» لا يقل اعتباطاً عن كل محاولات استيراد صيغ جاهزة من الحكم.
وقال بوتين في المؤتمر الصحافي المشترك مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل: «من الضروري التوقف عن السياسة غير المسؤولة بفرض قيمنا على الآخرين ومحاولة بناء ديمقراطية في بلدان أخرى تقوم على نماذج من الخارج من دون الأخذ في الاعتبار المسائل التاريخية والإثنية والدينية، وتتجاهل تجاهلاً كاملاً تقاليد الشعوب الأخرى».
يتردد في كلام الرئيس الروسي صدى مقولات النظرية الأوراسية التي تجد تأييداً رسمياً في موسكو والرافضة لكونية النموذج الغربي من الليبرالية - الديمقراطية والقائلة بأن روسيا تتميز بخصائص تنبع من تراثها الذي ينطوي على عناصر من أوروبا وآسيا معاً، وهي بالتالي حضارة قائمة بذاتها لا يصح فيها ما يصح في المجتمعات والدول الغربية، وخصوصاً نظام الحكم الديمقراطي.
بيد أن بوتين أغفل أثناء توسيعه المقولات التي يبرر فيها تخلي حكمه عن الأفكار الديمقراطية التي وجدت موطئ قدم لها في روسيا في التسعينات والعقد الأول من الألفية الحالية، حق الأفغان - وكل الشعوب التي لا تنتمي إلى الغرب - في اختيار نموذج تراه الأفضل لتحكم نفسها به. وألزم الرئيس الروسي الأفغان والآخرين البقاء ضمن أنظمة تتلاءم مع تصوراته هو لتراث تلك الشعوب ومساراتها التاريخية والدينية وتقاليدها، وفق ما يفهمه الرئيس الروسي.
وهذا موقف لا يختلف، في العمق، عن الموقف الذي انتقده بوتين؛ ذلك أن ما من شيء ينبئ المراقب الموضوعي عن شكل الحكم والنظام السياسيين اللذين يفضلهما الأفغان ما دام أن رحيل النظام السابق وحلول حركة طالبان مكانه جاءا في إطار الانهيار الشامل الذي لم يترك مجالاً للمواطنين للتعبير عن إرادتهم الحرة.
وسائل الإعلام والمحللون الذين احتفوا بدخول عناصر الحركة الإسلامية إلى القصر الجمهوري في كابل، فعلوا ذلك من مواقع مختلفة، تتراوح بين الثأر لتراجع الحركات الدينية السياسية عن مواقع السلطة في العديد من البلدان وصولاً إلى التبشير بقرب سقوط الإمبراطورية الأميركية.
الديمقراطية تقع في رأس لائحة ما ينبغي الاحتفال بسقوطه: جاء بها الأميركيون، فلتذهب بها طالبان. وكأن الديمقراطية عاشت أزهى عصورها في عهدي حميد كرزاي وأشرف غني اللذين جاءا إلى السلطة على خلفيتين قبليتين ومارسا أثناء رئاستيهما كل ما في قاموس رؤساء العالم الثالث.
ولنتفق، أولاً، على أن الديمقراطية - الليبرالية هي حصيلة مسار تاريخي أوروبي - شمال أميركي استغرق نضوجه مئات الأعوام وظل حتى أواخر القرن التاسع عشر، تتغلب فيه الليبرالية على الديمقراطية، أو ما يسميه المؤرخ إريك هوبزباوم «عصر رأس المال».
احتلال الديمقراطية منزلة مساوية وموازية لليبرالية استغرق عقوداً من النضال العمالي والنقابي ومرّ بحربين عالميتين ليصل إلى الصيغة الحالية التي ما زالت تشهد تنافساً بين هذين المكونين الرئيسيين. سمته الكونية تحققت بعد الانتصار على ألمانيا النازية واليابان العسكرية، وترسخت بعد اختفاء التحدي الجدي الأخير الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي.
من ناحية ثانية، تتعارض كل محاولة لفرض هذا النموذج مع طبيعته البسيطة كخيار حرّ لأفراد أحرار. والسعي إلى إرغام أي شعب على اتباع النموذج الديمقراطي، يتناقض مع التعريف الأولي لهذا النموذج.
ودعونا نقل، ثانياً، إن أي نظام حكم يقوم على تحكيم أقلية، سياسية - عرقية - اجتماعية - دينية، بأكثرية المواطنين، مستغلة أساليب الترهيب والقمع والإقصاء، يتناقض مع ما يفترض أنه قيم عالمية وروح العصر (بالمعنى الإيجابي). ومن حق الأفراد، المكون الأساس للشعوب، أن يختاروا شكل الحكم الذي يتفق مع تطلعاتهم المستقبلية - وبالقدر ذاته - مع تراثهم وتقاليدهم وخياراتهم.
التوازن بين هذين المعطيين (حق الأفراد في الاختيار والاتساق مع الموروث) ليس مستحيلاً على ما يريد لنا أن نقتنع به الرئيس بوتين الذي يجد في خندقه مفكري ما بعد الكولونيالية الرافضين لكل تأثر بالغرب، من جهة، ومن يسقط كل ما تمثله الخصوصيات الوطنية والمحلية من الجهة المقابلة.
ثالثاً، وفي المقابل، ليس من حق أي دولة أو مرجعية آيديولوجية إسقاط تصوراتها على شعوب أخرى، وإذا كانت الديمقراطية هي التجسيد السياسي للحرية من أجل الخير العام، فلا شيء يحول دون أن ترفض أمم ومجتمعات هذا الطريق جراء خشيتها من ضياع هوية أو ثقافة أو تقاليد. وتنتهي هنا فكرة «التقدم» الذي قيل إنه الهدف الأسمى لحركة التاريخ، وتكون تلك المجموعات البشرية قد اختارت مصيرها بنفسها وتتحمل تبعات هذا الخيار.
المهم في كل ذلك هو السؤال عن توفر الحرية للأفراد قبل الجماعات في انتخاب نظام الحكم الذي يلائمها، لا أن يختاره لها رئيس أجنبي بغض النظر عن اسمه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحق في الديمقراطية وفي مساءلتها الحق في الديمقراطية وفي مساءلتها



GMT 09:09 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صوت الذهب... وعقود الأدب

GMT 09:05 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

GMT 09:04 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 09:03 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

عن تكريم الأستاذ الغُنيم خواطر أخرى

GMT 09:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجائزة الكبرى المأمولة

GMT 09:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تنظيم «الإخوان» ومعادلة «الحرية أو الطوفان»

GMT 08:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لأميركا وجهان... وهذا وجهها المضيء

GMT 08:53 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أنا «ماشي» أنا!.. كيف تسلل إلى المهرجان العريق؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:24 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 09:20 2024 الخميس ,08 شباط / فبراير

نصائح لعرض المنحوتات الفنية في المنزل

GMT 04:36 2024 الإثنين ,14 تشرين الأول / أكتوبر

فئات مسموح لها بزيارة المتحف المصري الكبير مجانا

GMT 15:44 2021 الجمعة ,22 تشرين الأول / أكتوبر

تفاصيل حوار باتريس كارتيرون مع رزاق سيسيه في الزمالك

GMT 06:24 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

رينو 5 الكهربائية الجديدة تظهر أثناء اختبارها
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon