بقلم:حسام عيتاني
الحرب الأهلية هي العبارة السحرية التي يُفترض أن توقظ اللبنانيين وأن تُخرجهم من سباتهم وتنبههم إلى أن ما ينتظرهم في الشهور المقبلة سيكون أسوأ بأشواط مما عرفوه حتى اليوم. تقابل التحذيرات من الحرب، توقعات بقرب سقوط منظومة الفساد الحاكمة وبداية عهد الدولة المدنية.
ولا يقتصد السياسيون اللبنانيون في استخدام التلويح باستئناف الحرب. هناك من يمدح نفسه لإبعاد كأسها المُرّة عن مواطنيه وهناك من يحذر من الحرب كأنها على الأبواب، في حين يتبارى آخرون في توقع «تطورات مرعبة» سيشهدها البلد الصغير. يتأسس خطاب عودة الحرب على احتمال فشل مفاوضات فيينا وعلى التصعيد الكبير في الحرب اليمنية وإصرار إيران على مدّ نفوذها في المشرق العربي. وعليه، سيكون لبنان المضطرب والمفلس ساحة مفتوحة لكل أنواع تصفية الحسابات وستكون الطوائف على أتمّ استعداد للقتال والتناحر ضمن السياقات المعروفة التي تمتزج فيها الدوافع الداخلية بالتحريض الخارجي. هذا على المستوى النظري، حتى الآن.. في حين يرى أنصار بعض المجموعات «الثورية» أن النظام اللبناني قد أفلس نهائياً وأن تعليق رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، نشاطه السياسي ليس سوى بداية النهاية لكل النظام الذي أوصل البلاد إلى الكارثة الاقتصادية والسياسية التي يكابدها.
انسحاب الحريري من العمل السياسي ليس تفصيلاً عابراً. وعلى الرغم من إحيائه ذكريات إرغام المسيحيين على الانكفاء عن المشاركة السياسية بعد نهاية الحرب الأهلية، على أثر إبعاد ميشال عون إلى فرنسا ومقاطعتهم انتخابات 1992 واعتقال سمير جعجع، فإن ظروف اليوم تختلف جذرياً عن تلك التي سادت قبل ثلاثين عاماً. غياب أي تصور لمستقبل لبنان حالياً مقابل مشروع إعادة الإعمار برعاية سورية - عربية - أميركية وما تطلبه من هدنة للصراعات الأهلية، هو نقطة الافتراق الأبرز بين إبعاد المسيحيين في مطلع تسعينات القرن الماضي وبين انكفاء السُّنة في عشرينات القرن الحالي.
الدعوات إلى إعادة تركيب النظام اللبناني في ضوء موازين القوى الجديدة ووراثة حصة السُّنة وتوزيعها على الطوائف المنتصرة التي أثبتت قدرة على الصمود أمام أهوال الانهيار الاقتصادي والسياسي، قد تكون سابقة لأوانها نظراً إلى عدم الوصول بعد إلى قعر الحفرة التي ينحدر لبنان فيها.
هذا في الجانب المتعلق بمقولات ترميم النظام بعد حذف أو تعديل ما جاء به اتفاق الطائف في 1989. فأصحاب المقولات هذه يمتلكون القاعدة الاجتماعية والسطوة المسلحة والمالية والإرث الدموي والتفويض السياسي الذي يؤهلهم للمطالبة بتعديل طبيعة الحكم بعد تفتت زعامة الطائفة السُّنية التي شكّلت إحدى ركائز «نظام الطائف» الأساسية.
أما المبشرون بتداعي المنظومة برمّتها وانتظار سقوطها بين لحظة وأخرى و«مرور جثتها في النهر»، فأمرهم يدعو إلى العجب. ذاك أنهم ينسبون شرعيتهم إلى انتفاضة «17 تشرين» ويرون فيها لحظة تأسيسية لنمط جديد من الممارسة السياسية في لبنان يقوم على الضد من كل ما درجت عليه منظومة الحكم الفاسدة، ابتداءً من رهانها على ديمومة اقتصاد غير منتج يعتمد على المضاربات العقارية والاستدانة المفرطة، وصولاً إلى خضوعها لإملاءات القوى الإقليمية السورية ثم الإيرانية.
بيد أن النقد الجذري للنظام اللبناني الفاسد والمرتهن لا يعني حكماً أن الناقد قادر على التحول إلى بديل قابل للحياة. الأمور في لبنان أكثر تعقيداً من ذلك لاستناد صعود الجماعات السياسية أو اضمحلالها إلى ما يتجاوز وعي المصلحة المباشرة وتحديد سبل تحصيلها أو انتفائها، ليصل إلى جملة من المعطيات القرابية والعصبية لا تمتلك المجموعات «الثورية» القدرة على مخاطبتها. ما يُفسر صمود الأحزاب والتيارات الطائفية أمام الكارثة التي بدأت في 2019 بل قدرتها على توظيفها والاستفادة منها في توسيع جمهورها.
الحرب الأهلية هي التصور الجاهز في خيال السياسيين التقليديين الذين لا يستطيعون العيش من دون نشر الذعر في صفوف مناصريهم وتخويفهم من المستقبل المظلم. لكن التساؤل يجوز هنا عن وصف الوضع الحالي الذي لا ينقصه الانقسام الطائفي والطبقي والتوتر الدائم. هو في الواقع أشبه بحرب أهلية باردة تنصرف فيها كل جماعة إلى تدبر أمورها ومحاولة النجاة من المركب الغارق المُسمى لبنان.
والطائفة السُّنيّة في لبنان لم تكن في تاريخها موالية لزعامة واحدة إلا في مراحل نادرة كان أبرزها صعود رفيق الحريري. يرجع ذلك إلى جملة من المعطيات ليس أقلها أهمية توزُّع السُّنة على المدن والأرياف وانتشارهم الواسع في المناطق اللبنانية خلافاً لأكثرية الطوائف التي تتمركز في مناطق معينة. ويضعها ذلك على مسافة من باقي الطوائف من ناحية البنية السياسية والقدرة على إنتاج زعامات تتمتع بتأييد أكثرية أبناء الطائفة المعنية.
أما المجموعات المعارضة التي هللت لانسحاب الحريري ورأت فيه مقدمة لنجاحها الانتخابي، فقد أثبتت ضعفاً مخزياً في قراءة الواقع.