توقيت القاهرة المحلي 05:32:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

البُخاري كمؤشر اجتماعي ـ سياسي عربي

  مصر اليوم -

البُخاري كمؤشر اجتماعي ـ سياسي عربي

بقلم:حسام عيتاني

تبرز كل بضع سنوات قضية أو شخصية من التراث العربي – الإسلامي لتحتل ساحة النقاش ولينقسم حولها المثقفون والكتّاب والمعنيون عموماً بالشأن العام. في الشهور والأعوام الماضية، عاد الإمام البخاري وصحيحه إلى مركز الضوء بل إلى قاعات المحاكم في أكثر من منبر وبلد عربي.
عودة سريعة إلى أوائل الألفية بعد صعود تنظيمات العنف الجهادي، خصوصاً على أثر هجمات «القاعدة» في نيويورك وواشنطن، تُظهر أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان نجم تلك المرحلة. فتاواه وآراؤه وشخصيته بل أصله ومنبت عائلته، كانت مواضيع اهتمام بالرجل فاق المعقول. دول عربية حظرت تداول مؤلفاته ومؤتمرات عُقدت للبحث في راهنية فتوى من فتاواه. هناك من شيطن ابن تيمية في حين رأى آخرون أن الترياق لمآزق العرب والمسلمين يكمن في كتبه. هذا والرجل مات من أكثر من 700 عام في ظروف يكاد لا يربطها رابط بعالمنا المعاصر.
في تسعينات القرن العشرين، كان ابن رشد وعقلانيته بمثابة «نجم سهيل» الكتّاب العرب. وحُمِّل الرجل وفكره ودوره أكثر مما يحتمل بكثير. وطُرح كمنقذ للعرب ومحرك لنهضتهم المقبلة، شرط اتّباع أفكاره. لم تكن هذه خلاصة فيلم مبتسر عن المفكر الأندلسي فحسب، بل تضمنتها آراء مثقفين رصينين مثل محمد عابد الجابري في وضعه ابن رشد العقلاني مقابل ابن سينا الإشراقي الغنوصي، وفي قسمته الفكر الإسلامي إلى مشرقي ظلامي تطغى الخرافة عليه ومغربي يحمل بذور التنوير.
قبل ذلك، وقعت معركة حامية بين أنصار المعتزلة وخصومهم. وكالعادة، ذهب البعض إلى ضرورة «استئناف» الفكر العربي – الإسلامي من حيث توقف مع المعتزلة. ومع تقدم أعمال التحقيق والبحث، اكتُشفت أعمال أعلام المعتزلة المفقودة منذ قرون ونُشرت ودُرست، بعدما كان الاعتماد في التعرف على أفكارهم يقع على المصادر الثانوية التي غالباً ما كانت بأقلام نقادهم.
معروف أن شخصيات كثيرة استُحضرت إلى هذه المحاكم الفكرية. حُمِّل الإمام الغزالي مسؤولية التخلف الذي ساد ابتداءً من القرن الخامس الهجري بعد إدانته للفلسفة والفلاسفة. الأشاعرة لم ينجوا من حكم مشابه. المتوكل العباسي حضر كناقض للبدعة المعتزلية فيما صُبت اللعنات على من تسبب في محنة الإمام أحمد بن حنبل.
تناسى دعاة «الإحياء» و«الاستئناف» أن القضايا التي توقف عندها ابن رشد والمعتزلة وغيرهم، قد وجدت طريقها إلى الحياة بعد غياب أصحابها وأصبحت جزءاً من الفلسفة العالمية والغربية من خلال أشخاص مثل توما الإكويني والمدرسة السكولائية الفرنسية، على الرغم من أن فلاسفة الغرب اختاروا القضايا التي رأوا فيها ما يعنيهم وتركوا المسائل الفقهية الدقيقة. عليه، تبدو تصريحات عن إحياء التراث واستلهامه وبعثه، معنيّة بالحاضر العربي المأزوم أكثر مما هي صادرة عن همّ بحثي أو معرفي مجرد.
يمكن فهم العودة المتكررة إلى المعتزلة وابن تيمية وابن رشد والغزالي والبخاري من هذه الزاوية. أي من الحاجة إلى إعادة النظر ببنى الاجتماع والسياسة والسلطة في العالم العربي المعاصر. ولم يخفِ كتّاب مثل عبد الله العروي ونصر حامد أبو زيد وغيرهما ضرورة وضع العلاقة بين الدين والسلطة موضع بحث ونقد. الجدل حول ابن تيمية وتأويل النص الديني في زمن سابق انطويا على جوهر مشابه للنقاشات الحالية حول البخاري: الاجتماع السياسي العربي والسلطة.
تفاصيل المواجهات التي يصل بعضها إلى المحاكم مصحوبة بغضب عارم حول صحة الأحاديث التي أوردها البخاري، تتجاوز الأطر الأكاديمية والفقهية لتطال مباشرة المسألة الاجتماعية السياسية العربية. فلو كانت كذلك، لأمكن الوصول إلى استنتاجات علمية مقبولة من دون سجون ومحاكم وتشهير على مواقع التواصل الاجتماعي. أو هكذا يُفترض أن تجري النقاشات العلمية حتى لو تطرقت إلى أمور حساسة، تمس بقاء النظام الأبوي المستند إلى بنية اجتماعية تعصف بها رياح العصر.
الغضب والصخب في قضية المستشار أحمد عبده ماهر وكتابه «إضلال الأمة في فقه الأئمة» يذكّران بما رافق محاكمة نصر حامد أبو زيد وتطليقه من زوجته وهجرته إلى هولندا ووفاته هناك، وبالحكم بالسجن على إسلام البحيري وسط اتهامات بالكفر والردة وما شاكل. الموضوع سيعود، إذن، كل بضع سنوات إلى الظهور مجدداً ليس لأن أشخاصاً يتلبسهم الشر فيخوضون في مواقف اتفقت «الأمة» عليها منذ قرون، بل لأن المجتمعات العربية مثلها مثل كل مجتمعات العالم، عُرضة للتغير والتبدل سواء في أساليب العيش والعمل أو في القيم الثقافية والأخلاقية التي تتبناها. لا سرّ ولا عيب في هذا.
وما دامت المجتمعات العربية والإسلامية تتغير وتبحث عن مخارج من أزماتها، حيناً بتبني العنف الجهادي كبديل عن استبداد السلطات وفسادها، وحيناً آخر بعقلانية إسلامية تمهّد الطريق أمام ديمقراطية «من صُنعنا»، فسنكون على موعد مع تحديات مستمرة لمنظومة القيم والأفكار والسياسات السائدة. وستستمر الأسئلة بالتجوال من ابن تيمية إلى البخاري إلى المعتزلة وإخوان الصفا ومحيي الدين بن عربي وكل من ذهب مذهباً في الماضي، ما دام بين الحاضر وتفحصه ونقده موانع وجدران. عليه سيبقى الماضي مؤشراً على الحاضر الاجتماعي والسياسي العربيين.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

البُخاري كمؤشر اجتماعي ـ سياسي عربي البُخاري كمؤشر اجتماعي ـ سياسي عربي



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon