بقلم:حسام عيتاني
مرات عديدة دوّت كلمة «العدالة» في الجلسة الأولى لمجلس النواب اللبناني المنتخب أخيراً، لتتبعها على الفور صرخة «ملغاة» يطلقها رئيس المجلس، الممثل حينها لتحالف السلطة الحاكم.
وكأن الممسكين بخناق بلدنا لا يستطيعون سماع كلمات من نوع «العدالة لضحايا تفجير مرفأ بيروت» الذين يجلس بعض المتهمين بالتسبب في قتلهم وجرحهم وتشريدهم على مقاعد النواب، و«العدالة للقمان سليم» الذي تتمثل الجهة المسؤولة عن اغتياله بكتلة نيابية لا يُستهان بها، أو «العدالة للمودعين» الذين خسروا أموالهم بتواطؤ فاضح بين السلطة ومجلسها النيابي وأصحاب المصارف.
وسريعاً ما لاحظ رواد منصات التواصل الاجتماعي ذاك التتابع بين طلب «العدالة» وإلغائها الفوري. خلاصة الاستنتاج المبني على الملاحظة أن المجلس الذي انضم إليه حوالي 13 نائباً محسوباً على «انتفاضة 17 تشرين» (أكتوبر «تشرين الأول» 2019) لم يخرج من قبضة من أوصل لبنان إلى الهاوية، ويمنع كل مساعي إخراجه منها. كذلك الأمر بالنسبة إلى السلطتين التنفيذية والقضائية اللتين تدوران في فلك «المرجعيات» و«الأقطاب» الحاكمة.
ولم تكن صدفة أن يلتقي مؤيدو «17 تشرين» مع أتباع القوى التقليدية، كل من منطلق مختلف عن الآخر، في توجيه انتقادات قاسية إلى «نواب التغيير». فلسوء طالع هؤلاء أن حجم الآمال المعلقة عليهم يوازي حجم النكبة التي اجتاحت لبنان. وفي الوقت الذي لا تنقص خصومهم فيه أدوات السلطة والمال والسلاح والإعلام، يبدون هم مجردين من كل شيء باستثناء جمهور متطلب ومستعجل على علاج مصائبه.
أما العدالة التي تردد اسمها في جلسة البرلمان اللبناني الجديد، فهي أشبه ما تكون بطائر النار في الميثولوجيا السلافية. ولا يعادل قدراته الخرافية على بث النور وجماله الباهر سوى استحالة الوصول إليه وأسره في قفص. فيقتصر حلم الساعي على الحصول على ريشة من جناح الطائر الناري، ليضيء بها عتمة داره وعمره.
هكذا العدالة المأمولة- المقتولة في لبنان. كلما زاد الطلب عليها اتضح امتناعها وشراسة الوحوش التي تحول دون الوصول إليها. وليس الغرق في إضفاء صفات خارقة على النواب الجدد بمفيد لهم ولا لناخبيهم، ولا لمحاولات إحياء العملية السياسية في البلد. فتشابك الانهيار الاقتصادي مع وجود قوى عاتية تتولى الدفاع عن النظام، ولو بتوسل طريق العنف والاغتيال والقمع العاري، لا يترك مجالاً واسعاً لهؤلاء النواب لمباشرة تنفيذ ما حملوا من برامج وأفكار، من أسف أن أكثرها أقرب إلى الأوهام في مقابل المنظومة الحاكمة المتجذرة في بنية المجتمع اللبناني وطوائفه وعشائره وطبقاته، والمُدركة للخطر الذي تشكله أصوات تجهد للتخلص من الانحيازات التي تفرضها الهويات الجزئية، ومن عوامل السقوط والدمار السابقة.
لعل هناك من يرى أن ما يجري في لبنان منذ الانتخابات التشريعية، وصولاً إلى انعقاد جلسة مجلس النواب، لا يزيد على عرض صاخب لخلافات اللبنانيين حول أسباب خراب بلدهم. وأن المشاركين في العرض هذا أضعف من أن يصلحوا الحال، وأنهم في واقع الأمر من «مساحيق التجميل» التي تستغلها الجماعة الحاكمة للتسويق لنفسها مجدداً أمام خارج خبا اهتمامه بلبنان، ولم يعد يبالي بما يجري فيه.
وليس في منأى عن الصواب الاعتقاد بأن هذا العرض الجانبي إنما يخفي خطراً جسيماً آخر يحدق بلبنان والمنطقة، ويمكن تلمسه في الخطابات الأخيرة للأمين العام لـ«حزب الله»، عن إمكان اندلاع حرب إقليمية وشيكة، وعن الرهان غير الصحيح على ثروات لبنان من النفط والغاز التي ما زال الطريق إلى استثمارها طويلاً وشائكاً. الأمين العام يحدث المبتهجين بانتخاب 13 نائباً تغييرياً، بما لا يريدون سماعه: لا فكاك من هذه الأنشوطة المعقودة على رقابكم والتي لا تعدكم إلا بالحروب و«الانتصارات» والدماء، وهذه تعادل المزيد من الاقتتال الأهلي وتفكك الدولة واضمحلال المجتمع. وذرائع الحروب المقبلة جاهزة. فإن لم تنفع مقولة حماية ثروات لبنان النفطية في البحر، فلا مانع من الانخراط في حرب لأي سبب آخر.
حتى اليوم، وعلى الرغم من النيات الطيبة ومن التغير مرتفع الصوت ولكن منخفض الفاعلية في المجلس النيابي، لم تتكون الكتلة السياسية اللازمة لتفكيك التحالف الحاكم وكتل مصالحه الممتدة من المصارف إلى الميليشيات المسلحة. وما زال الدمار هو البند الوحيد المطروح على جدول أعمال أصحاب النظام وحُماته. ولم تظهر بعد مناعة الجسم الاجتماعي اللبناني أو قدرته على محاربة أمراضه. يحف بذلك فضائح صغيرة تؤلفها تحالفات بين مدعي الخصومة من أبطال المنظومة وزبانيتها، وتبدلات تأتي بها ضرورات تكتيكية لسياسيين أدمنوا على المقامرة بما لا يملكون.
حلم العدالة لضحايا جماعات الفساد والعنف والتهرب من العقاب، سيبقى بعيد المنال، طائراً من نار. بيد أن لا مفر من الركض خلفه، علّ ريشة مضيئة تسقط من جناحه أخيراً.