بقلم:حسام عيتاني
يصل اليأس ببعض اللبنانيين إلى مستوى الدهشة. كأن بلدهم أصبح ثقباً أسود لا ينجح حتى الوقتُ والضوء في الفرار من جاذبيته القاتلة. لا مبادرات، ولا حلول في الأفق. فكل شيء في حالة انتظار لمجهول قد يأتي على شكل انتخابات أو قد يمتد انتظاره إلى ما لا نهاية له.
لخصت كلمة رئيس الجمهورية ميشال عون قبل أيام حالة الدهشة بتوجهه إلى اللبنانيين بتساؤلات، الإجابة عنها من صلب مهامه ودوره الدستوري. تساءل الرجل عن الأسباب التي تحول دون الخروج من الانهيار الذي وقع في عهده وبرعايته. هاجم «المنظومة» الحاكمة التي يقيم هو وحزبه على رأسها. و«المنظومة» هي المستخدمة من قبل بعض مجموعات «انتفاضة 17 تشرين» للحديث عن الجماعة الحاكمة. وبذلك، يتقمص رئيس الجمهورية أدواراً عدة. فهو الحاكم والشاهد والساعي إلى الخير العام والعاجز والمغلوب على أمره والضحية. هو في السلطة وخارجها. استعاد حقوق المسيحيين لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً بها أمام جبروت مجهول الاسم والعنوان ومتعدد الرؤوس. مأساة إغريقية متجسدة في رئيس. وبطل تراجيدي منتزع من مآسي شكسبير. أو لعله رأس دولة تنتمي إلى عالم فيزياء الكوانت، حيث يصح القانون ونقيضه، وحيث تتحرك مكونات الذرات باتفاقات بين بعضها يعجز العقل عن إدراكها.
طرح رئيس الجمهورية أسئلته على مواطنيه مساء 28 ديسمبر (كانون الأول) وختمها بدعوة «المنظومة» ذاتها إلى الحوار لمنع سقوط النظام في بلد لا كهرباء فيه واتصالاته مهددة في كل لحظة بالتوقف فيما تتوسع الحفر في طرقه لتصبح أشبه بخنادق لا تستطيع العربات عبورها. مما يبرر السؤال عن صورة «النظام» في ذهن المقيم في القصر الجمهوري.
ولم يتأخر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عن إصابة مواطنيه بشحنة مشابهة من الذهول عندما نفى وجود نفوذ إيراني في لبنان، مصنفاً «حزب الله» كحزب سياسي لبناني قبل ساعات من انفجار مخزن ذخيرة تابع للتنظيم ذاته في إحدى القرى البقاعية. وقيل أن الانفجار متعمد، حيث تخلص الحزب من بعض الذخائر القديمة وهذا عمل - إذا صح - لا تقوم به إلا الجيوش النظامية. لكننا في لبنان.
الطامة الكبرى في كلام ميقاتي كانت في تمسكه بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الملاحق بتهم الفساد في عدد من الدول الأوروبية والذي يُجمع خبراء اقتصاديون لبنانيون وأجانب على انعدام كفاءته في إدارة السياسة المالية والنقدية اللبنانية، بل وعلى مسؤوليته عن جزء كبير من الكارثة الاقتصادية التي حلّت بالبلاد.
قال ميقاتي في سياق دفاعه عن سلامة: «أنت لا تغيّر ضباطك أثناء الحرب»، مما أثار ردود فعل ساخرة من هذا الضابط الفاشل وغاضبة من إصرار السلطة ممثلة بميقاتي على إبقاء حاكم المصرف المركزي في مركز حساس رغم كل ما يحيط به من اتهامات تبلغ حد اليقين. وغني عن البيان أن الرؤساء والقادة غالباً ما يغيّرون ضباطهم أثناء المعارك وفي أشد لحظات القتال حرجاً. الأمثلة على ذلك لا تبدأ مع الرئيس الأميركي إبراهام لنكولن الذي لم يكن يتردد في طرد جنرالاته بمجرد إحساسه بترددهم أو جبنهم. ولا تنتهي مع ستالين الذي كان يأمر بإعدام من يراه مقصراً من الضباط رمياً بالرصاص، بغض النظر عن مجريات القتال. لكن لا ميقاتي لنكولن ولا سلامة بضابط يقود المعارك. ذاك أنهما ليسا أكثر من عتلتين في آلة الفساد الهائلة التي دمرت لبنان وهجرت كفاءاته وحطمت مستقبل أجياله.
أما المتحدثون باسم «حزب الله» حامي النظام ومسيّره في آن، فلا يتوقف المتحدثون باسمه عن حض اللبنانيين على ترك بلدهم إذا لم يكونوا راضين عن «لبنان المقاومة». حتى حق السؤال: مقاومة ماذا فيما الناس تبحث عن قوتها في مكبات النفايات؟
عليه، فذهول اللبنانيين متعدد المستويات والوجوه؛ ذهول من انفصام طبقة سياسية تورطت في إفقار مواطنيها وتفجير عاصمتهم والتهرب من العدالة ومنع كل محاولة مهما كانت بسيطة للإصلاح والخروج من المأزق المفتعل. وذهول من وقاحة هذه الجماعة التي تتفاخر بتهريب أموالها إلى الخارج على غرار ما فعل أحد نواب «اللقاء الديمقراطي» في مقابلة تلفزيونية متذرعاً بضرورة الإنفاق على طائفة ولي نعمته. وذهول أمام العجز العام، خصوصاً بين القوى التي أعلنت التحاقها بانتفاضة 17 تشرين، عن استخراج ولو تنازل ضئيل من الجماعة المتسلطة من أجل فتح أفق لتحسين معيشة نحو ستة ملايين لبناني يرزحون تحت نير الفقر والذل والغربة.
استخدم عدد من الكتّاب العرب صفات عدة لتشخيص حكومات الاستبداد التي اضطهدت شعوبها: القسوة. الفظاعة... ربما يصح الاجتراء على فعل القبائح بأعلى درجاته في وصف السياسيين اللبنانيين. وقاحة لا رد عليها سوى ذهول العاجز.