توقيت القاهرة المحلي 11:34:47 آخر تحديث
  مصر اليوم -

قضايانا في عُهدة كَهَنة الماضي

  مصر اليوم -

قضايانا في عُهدة كَهَنة الماضي

بقلم: حسام عيتاني

يمنع خليط من الآيديولوجيات الكلية القائلة بقدرتها على تفسير الماضي والسيطرة على الحاضر واستشراف المستقبل، إضافةً إلى إرث ثقيل من المكونات الثقافية والهوياتية والولاءات الأهلية، شعوب منطقتنا ودولها من تبني المقاربة العملية (البراغماتية في حدها الأدنى) للقضايا الكبرى التي ما زالت تعصف ههنا.
قضايانا تحتل مواقع عاطفية ونرجسية في نفوسنا. فلا نستطيع النظر إليها من دون عدسات ذواتنا المتألمة. هي قضايا تمس بالشرف والعِرض والكرامة والدين، في رأينا، قبل أن تكون مسائل قابلة للتفاوض وتخضع الحلول المقترحة لها لموازين القوى والعوامل المادية الذاتي منها والموضوعي.
تنقلب قضايانا مهما كانت بسيطة أو عادية، إلى تهديدات وجودية لنا وإلى نكبات وكوارث علينا تتطلب تدخلاً من الغيب أو القوى الكبرى للوصول إلى حلول لها، وهذا بالضبط ما يمنع إحراز أي تقدم نحو الحلول الممكنة والتفاوضية. القضية الفلسطينية، على سبيل المثال، وجدت مَن حوّلها إلى صراع وجودي بين المسلمين واليهود سيستمر حتى يوم الدين، ما يجرّد المسلمين والعرب والفلسطينيين بل العالم من القدرة على إنهائه بأي شكل كان ما دامت موازين القوى على ما نعرف من الاختلال وما دام أصحاب القضية الأصليون على ما نرى من الانقسام.
نأخذ مثلاً: إذا تهالكت سلعة معمّرة - لنفترض أنها سيارة أو قطعة أثاث أو آلة موسيقية - وأجمع أصحاب الخبرة التقنية على أن إصلاح السلعة سيكلّف أكثر من قيمة واحدة جديدة شبيهة بها، سيبرز أمام مقتني السلعة حلّان؛ الأول أن يشتري أخرى جديدة ويستغني عن القديمة المعطلة، والآخر أن ينفق على ترميمها مبالغ باهظة. الحل الثاني يتضمن تعلق صاحب السلعة العاطفي بها لانتمائها إلى ذكريات عائلية أو ما شابه. هو إذن إنفاق واعٍ للمال كثمن للرضا النفسي.
ويتضمن الحل الثاني أيضاً إدراك صاحب السلعة القيمة التي ستتحصل سلعته عليها بمرور الزمن وتحولها إلى قطعة أثرية أو «كلاسيكية» (على ما يقال بلغة تجار السيارات القديمة). الإنفاق هنا إنفاق استثماري يعتمد على سوق حقيقية للسلع الأثرية وبالتالي على قيمةٍ ما ستُضاف إلى السلعة المتهالكة في الوقت الراهن، إذا جرى تجديدها كما ينبغي. لكن في النهاية، جانب كبير من قيم السلع الأثرية و«الكلاسيكية» ينبع من اعتبارات نفسية عند أصحاب المجموعات والباحثين عن البضائع النادرة. الثمن هنا يصدر من اعتبار غير مادي.
لِنَصُغ المسألة على نحو آخر: أين هو الحد الفاصل بين القيمة العملية المجردة والمادية للسلعة وبين قيمتها النفسية سواء لمالكها أو لمشترٍ مستقبلي مفترَض لها؟ البحث عن هذا الحد يساعد ليس فقط في وضع أسس عقلانية لقضية السلعة المتخيلة بل يسهم أيضاً في الفصل بين الجوانب المعنوية والنفسية وتلك المادية والمصلحية للمواضيع المطروحة.
وليست مبالغة القول إن نزع القيمة العاطفية أو النفسية عموماً عن القضايا مقدمة ضرورية لوضعها على سكة الحل. وإضفاء القداسة وصفات الخلاص القومي والفردي على القضايا ينسف سمتها البشرية ونسبيتها وانتمائها إلى فضاء السياسات والعلاقات التي يتعين أن تقوم على المصالح حتى لو غلّف أصحاب القضايا قضاياهم بخطاب المبادئ والقيم.
في المقابل، ثمة قضايا تكون مكوناتها المعنوية شديدة الالتصاق بقيمتها المادية. إصرار الحلفاء على إسقاط الحكم النازي في ألمانيا في أثناء الحرب العالمية الثانية، ومنعه من الاستمرار بأي ثمن، لم يأتِ من كراهية تشرشل وستالين وروزفلت للآيديولوجيا النازية فحسب، بل جاء أيضاً من معرفتهم أن بقاء النازية الألمانية حتى لو أُعيدت إلى داخل حدود ما قبل الحرب، سيولّد المزيد من الحروب والتهديدات على مستوى العالم. فألمانيا قوية في ظل حكم الحزب الوطني الاشتراكي (النازي) هي قنبلة موقوتة حتى لو تعرضت للطرد من البلدان التي احتلتها.
عليه، كيف نميّز بين الجوانب العملية والأخلاقية في قضايانا؟ أيٌّ منها قابل للتفاوض والتسوية ويتحمل تنازلات، وأيٌّ منها كل خطوة إلى الوراء فيها مسّ بوجودنا وثقافتنا وهويتنا؟ تشير تجاربنا في المشرق العربي في الأعوام المائة الأخيرة إلى أننا أفرطنا في تقديس القضايا وتسلقنا أشجاراً عالية جداً لم نعد قادرين على النزول منها. حملات التخوين والتهويل والتهديد وصولاً إلى كواتم الصوت والعبوات الناسفة تنتظر كل من يُقْدم ولو من باب المغامرة أو التجربة أو اليأس، على خطوة لا يوافق عليها مَن عيّن نفسه حامياً للقيم المفترضة وحارساً على شرفنا وأعراضنا.
ومن أسف أن هذه الطريقة في مقاربة القضايا والمسائل تتجدد وتنهض مع بروز مسائل يحملها عالم اليوم. فنتّكل على شاعر القبيلة وعلى كهنة الماضي ليرشدونا إلى دروب مستقبل شائك وخطر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قضايانا في عُهدة كَهَنة الماضي قضايانا في عُهدة كَهَنة الماضي



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:26 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يضيف لسجله أرقاماً قياسية جديدة

GMT 10:18 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

شوربة الخضار بالشوفان

GMT 08:15 2020 الثلاثاء ,09 حزيران / يونيو

فياريال يستعين بصور المشجعين في الدوري الإسباني

GMT 09:19 2020 الجمعة ,24 إبريل / نيسان

العالمي محمد صلاح ينظم زينة رمضان في منزله

GMT 09:06 2020 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

تعرف علي مواعيد تشغيل المترو فى رمضان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon