بقلم: حسام عيتاني
تنتشر في الأوساط الصحافية ومواقع التواصل الاجتماعي اللبنانية مقارنةٌ بين الرئيس الأسبق بشير الجميل وبين وزير الخارجية الحالي ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، الذي يقال إنه الزعيم المسيحي الأقوى الذي يعرفه لبنان منذ اغتيال الجميّل في 1982.
يخدم باسيل في المقارنة هذه احتلاله الدائم لوسائل الإعلام وظهوره اليومي في مناسبات ونشاطات وتحركات تتجاوز مهماته الوزارية والحزبية وترفد مشروعه للوصول إلى رئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. وتخدمه خصوصاً المناكفات التي يخوضها مع قوى سبق أن حاربت بشير الجميّل وحاربها أو تقع في الخندق الطائفي المقابل لذاك الذي يقيم فيه زعيم المسيحيين اللبنانيين الجديد جبران باسيل. مئات المواقف والتصريحات التي استهدفت الطريقة التي أُدير بها لبنان في أثناء احتلال النظام السوري له وما رافقه من تهميش للمسيحيين ومن تحالف مع الأطراف المسلمة التي ما زالت تتصدر تمثيل طوائفها، أسفرت عن استنفار نضالية مسيحية تطالب باستعادة «الحقوق» – وهذه تورية للدعوة إلى التخلي عن اتفاق الطائف الذي أعاد تأسيس النظام اللبناني - والتمسك بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين باعتبارهما ضمانة السلم الأهلي والعيش المشترك.
على هذا السلم الثلاثي القوائم، تقف زعامة جبران باسيل الذي يشتهي أنصاره أن يكون التجسيد الحي لبشير الجميّل.
بيد أن التشابهات تنتهي هنا.
لوضع الظاهرة الباسيلية في سياقها، يتعين إلقاء نظرة على الأثر الجارف الذي تتركه التحولات الدولية على السياسات والطوائف اللبنانية، منذ انفتاح لبنان على التيارات الاقتصادية والثقافية والسياسية الدولية والتي تعود إلى أوائل القرن التاسع عشر عندما تكرس ارتباط الاقتصاد اللبناني بآلة الثورة الصناعية في الغرب على ما يشرح المؤرخ الفرنسي دومينيك شوفالييه. أسفر الارتباط هذا عن صراعات دموية وحروب أهلية وتكريس للبنية الطائفية السياسية التي جلبت معها حساسيات جديدة إلى نواة الكيان اللبناني ومن ثمّ إلى الجمهورية اللبنانية. فكل حدث عالمي ينعكس صداه سريعاً في لبنان، وكل شخصية عربية تجد لها مؤيدين ومعارضين بين اللبنانيين. بل يجوز وضع لائحة بالتغيرات الدولية التي تُرجمت في لبنان ترجمة حرفية ومنها الحركات الفاشية والأحزاب الشيوعية والقومية. الصعود الناصري حضر حضوراً قوياً في لبنان وكذلك الثورة الفلسطينية وتداعيتها وصولاً إلى المد الليبرالي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتبني الحكومات اللبنانية مقولات الخصخصة وتفكيك القطاع العام، وانتهاء بالموجة الشعبوية اليمينية التي يستوحي العديد من السياسيين اللبنانيين بعض بذاءاتها في خطاباتهم ومن ذلك جنوحهم نحو التحريض على القتل والعنف بذريعة أن «كبار سياسيّي العالم» يسيرون على طريق التفاهة والضحالة. ومثلما كان بشير الجميل ممثلاً «للثائر» غير المبالي بالتقاليد السائدة في مواجهته لخصم أكبر منه، وهو النموذج الذي ساد العالم بين الستينات والسبعينات من القرن الماضي، كذلك يريد جبران باسيل أن يكون ثائراً يحطم القواعد التي يتهم الآخرين باتباعها مصراً على أنه خصم شرس للفساد...
لكن الفارق الأكبر بين بشير وجبران يكمن في رؤية كل منهما لموقع المسيحيين اللبنانيين في الداخل وعلاقات هؤلاء بالطوائف الأخرى من جهة، وبدور المسيحيين اللبنانيين في المنطقة ككل. ويعرف كل قارئ للسياسة اللبنانية أن نزعة جبران العدوانية تستند قبل كل شيء إلى استقوائه بتحالف التيار العوني مع «حزب الله» الثقل النوعي، المسلح والمنظم تسليحاً وتنظيماً لا يضاهَى بالمعايير المحلية. من دون هذا التحالف كان وزن «التيار الوطني الحر» ليختلف كثيراً على المستوى الوطني. في المقابل، صنع بشير الجميل وزنه العسكري والتنظيمي بالاعتماد على المكونات المحلية، سواء بتصفية الخصوم أو إبعادهم أو بنسج تحالفات مع عناصر البيئة المسيحية التي هادنته ثم قدمت له دعماً كبيراً عندما اكتشفت فوائد مشروعه.
على المستوى المسيحي الإقليمي، كان بشير يسخر من الطوائف المسيحية في البلدان العربية ويشدد على أن مسيحيي لبنان لا يمكن أن يعيشوا «ذمّيين» – بعبارته - على غرار مسيحيي الدول العربية الأخرى ويصر على أصالة الحق المسيحي في الأمن وتقرير المصير من دون التنازل للآخرين. علاقات الجميّل مع إسرائيل كانت أداتية على ما يُفهم من العديد من المحطات، حيث كان يتصور أنه سيستخدم الإسرائيليين مثلما استخدم السوريين في 1976 لوقف التقدم اليساري – الفلسطيني إلى مناطق سيطرته، ومن توجه الجميل إلى المشاركة في أعمال القمة العربية فور انتخابه رئيساً للجمهورية برفقة الرئيس الراحل إلياس سركيس كإشارة إلى أولوية العلاقات مع النظام العربي الرسمي لديه. وتستحق هذه النظرة تفصيلاً وافياً لكنها لا تعني الانزلاق إلى تمجيد سهل ومجاني لبشير الجميل الذي يظل أحد الشخصيات الإشكالية في تاريخ لبنان الحديث.
أما جبران باسيل فقد استحسن مع تياره، ومن باب التفاهم مع «حزب الله»، مقولة «تحالف الأقليات» التي تضم «المشرقيين» من شيعة ومسيحيين وتضعهم في حالة تناقض وصراع مع السُنة العرب. الأقليات المتحالفة تقدم نفسها كرائد للمقاومة ضد إسرائيل في حين أن أنظمة عربية تسعى إلى التصالح والتطبيع مع الاحتلال. ولا يحتاج المرء إلى عناء كبير ليكتشف الفارق بين التابع وبين السيد في موازين القوى بين الأقليات.
هذه الفوارق الكبيرة مع التشديد على ضرورة التحفظ في الأحكام وإيلاء الظروف اهتماماً غير متاح في هذه السطور، تطيح بكل مقارنة أو تشبيه بين رجلين من زمنين مختلفين وتبرز استحالة تكرار التجربة في ظروف تغيرت تغييراً جذرياً من دون أن تكون التجربة الأولى إيجابية بأي شكل من الأشكال.