توقيت القاهرة المحلي 04:45:13 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«أمينة»

  مصر اليوم -

«أمينة»

حسن البطل

قصة: الزميل عبد الغني سلامة.
بكرة، الأحد، يوقع المؤلف كتاباً ثانياً جديداً «من سرق روايتي» في متحف محمود درويش. هنا قصة من مجموعته الأولى «قبل أن نرحل» الصادرة عن «اتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين» ٢٠١٥.
انضم عبد الغني سلامة إلى كُتّاب الرأي في «الأيام» الكتابة الصحافية ستؤثر على أُسلوبه في كتابه الثاني. سنرى؟!
* * *
اسمي أمينة: آنسة ستينية، أمٌ عذراء لأطفالٍ لم أرضعهم، جدة لأحفاد لم ألدهم .. تعودتُ منذ صغري أن استسلم لقدري، رضيت أن أكون جسراً تعبر من فوقه ثلاثة أجيال، كنت البنت الكبرى لعائلة من ثمانية أفراد، أغلبهم ذكور، كان أبي يحبنا جميعاً، ولكنه كان يميز الأولاد، ويخصهم بالهدايا، ولا يُخفي حلمه بأن يراهم رجالاً ناجحين.. لم أسمعه مرة يقول أتمنى أن أراكن «سيدات مجتمع»، «طبيبات»، «معلمات وكالة» .. أي شيء .. عشت عمري وأنا أسدد فاتورة فقره، وأدفع أثمان أحلامه..
لم يمنعني من دخول المدرسة، لكنه كان يطالبني أن أنام باكراً لأصحو قبيل الفجر؛ فأعدّ القهوة لأخي، ثم أنتظره ليكملها، فأعد له الفطور، لكي يستعد جيداً للامتحان .. كانت أمي مريضة على الدوام، ومشغولة بأشياء كثيرة لا أذكرها الآن .. فكان مطلوباً مني القيام بكل واجبات البيت .. وهي مهمات لا تنتهي أبداً..
بعد رسوبي المتكرر، خرجتُ من المدرسة لأتفرغ كلياً لرعاية أمي، وخدمة كل من في البيت.. كبُر أخوتي .. دخلوا الجامعات، وتخرجوا منها، تزوجوا وأنجبوا، وكبر أولادُهم .. وكما خدمتهم ورعيتهم صغاراً، فعلت مع أطفالهم .. ثم فعلتها ثانية مع أحفادهم .. بكل الحنان وبنفس الإخلاص .. كنت سعيدة بهذه الأدوار، ومزهوّة برؤيتهم يكبرون، شاعرةً أني أقطف ثمار تضحياتي.
كنت في صباي عادية الجمال، لكني لا أذكر أني وضعت على وجهي أي مسحوق، حتى عندما كنت أمرض كانت أمي تكتفي بغلي الميرمية، وعندما أُصاب بالصداع كانت تلف حول رأسي منديلاً وتشده بقوة .. كل الذين تقدموا للزواج مني فعلوا ذلك لأني «ربة بيت ممتازة»، كانوا يأتون مع أطفالهم جاهزين .. كنت أرفضهم لأن أيا منهم لم يقف تحت نافذتي، لم ينتظرني عند أول الزقاق، لم يرسل لي رسالة واحدة، لم يتعثر وهو ينظر لي بلهفة .. كنت أبحث عن عاشق، وكانوا يبحثون عن مربية وطاهية ومدبرة منزل .. وكان أبي يرفضهم أيضا لأنه يدخرني لأبنائه..
لم أغادر البيت إلا ما ندر .. فلم أعرف أن خارج البيت عوالم كثيرة .. وأن الدنيا تموج بالحركة .. ثورات، اختراعات، حركات سياسية، بنيان، سفر، عواصم، حروب، كتب، حقوق إنسان ... بدأتُ مؤخراً اخرج بين الحين والآخر، أرى أشياء لم أكن أتوقع وجودها.. فتنتابني أحيانا رغبة جامحة لأن أفعل شيئاً ما .. أرقص، أغني، أزور بعض الصديقات، أتطلع إلى واجهات المحلات، ثم إلى النجوم، ثم إلى نفسي .. فأُصاب بخيبة أمل .. جسمي الذابل لم يعد يقوى على فِعل الأشياء التي أحلم بها .. عمري لا يسمح؛ فأعود مسرعة للبيت، لا أدري ماذا أفعل.
في الليالي الطوال .. أسهر وحيدة .. لا أجد من الذكريات إلا الطبيخ والغسيل وتحميم الأطفال، تأكلني مشاعر الوحدة والتعاسة والحرمان والبرد ... كان عزائي الوحيد أن أحظى بالتقدير .. تعويضاً عن عمري الضائع، وعن أطفالي الذين تمنيت إنجابهم، وعن محبوبي الذي انتظرته كثيراً .. ولم يأت أبداً.
كنت أسمعهم يتحدثون عن أشياء كثيرة لا أفهمها، وعندما أسألهم عنها يبتسمون .. كنت أشعر أنهم ينظرون إليّ بإشفاق، كما لو أنني تحفة .. ذات مرة جلست أمام جهاز الحاسوب فقام أصغرهم والتقط لي صورة، وقال بسخرية سأنزلها على «الفيسبوك» .. سألتهم ما هو هذا الشيء؟! ضحكوا من أعماقهم .. أحسست أن ضحكاتهم سمعها كل من في الشارع ..
في تلك الليلة الكئيبة، أحسست أن صلاحيتي انتهت .. وهؤلاء الذين ربيتهم كبروا ولم يعودوا بحاجة لي .. بكيتُ عن عمري كله .. تمنيتُ أن لا يطلعَ عليَّ الصباح.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«أمينة» «أمينة»



GMT 04:32 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

ما قال... لا ما يقال

GMT 04:30 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

وزن تأريخ الأردن في التوجيهي 4 علامات.. أيعقل هذا ؟!

GMT 04:27 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

لكنّها الطائفيّة... أليس كذلك؟

GMT 04:24 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

العلويون جزء من التنوّع الثقافي السوري

GMT 04:22 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

سوريا والصراع على الإسلام

GMT 04:19 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

عن الحيادِ والموضوعيةِ والأوطان

GMT 04:16 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

أين يُباع الأمل؟

GMT 04:11 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

الجميع مستعد للحوار

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 15:49 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

شيرين عبد الوهاب تعود لإحياء الحفلات في مصر بعد غياب
  مصر اليوم - شيرين عبد الوهاب تعود لإحياء الحفلات في مصر بعد غياب

GMT 11:46 2024 السبت ,14 كانون الأول / ديسمبر

مبابي أفضل لاعب فرنسي في موسم 2023-2024 ويعادل كريم بنزيما

GMT 08:32 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 09:32 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

إطلالات للمحجبات تناسب السفر

GMT 10:42 2018 الخميس ,19 إبريل / نيسان

بولندا خرقت القانون بقطع أشجار غابة بيالوفيزا

GMT 23:19 2018 السبت ,07 إبريل / نيسان

كلوب يحمل بشرى سارة بشأن محمد صلاح
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon