حسن البطل
ليست العاصمة .. لكنها "العاصمة"، ليس "العيد" لكنه العيد. يقولون "الفطر" و"الأضحى" وكنا صغاراً نقول "العيد الصغير" و"العيد الكبير". صرت كهلاً وأقول ما كنا نقوله عن العيدين الصغير والكبير، لأن هذين العيدين هما العطلة الصغرى والعطلة الكبرى للصحيفة.. للصحف، ولكاتب العمود اليومي في الصحيفة.
كنت قلت "رام الله مرضعة قرى"، وهي هكذا عشرة أيام قبل العيدين: الفطر والأضحى (الصغير والكبير). قلبها "بسطة" ممتدة نصفها على الرصيف ونصفها في الشارع، أو هي اشبه بفوضاها (الناس. البسطات. السيارات.. أكوام الزبالة) بمدينة "كالكوتا" الهندية!
اليوم (أمس) الوقفة واليوم - اليوم العيد. "الأمة الإسلامية" تفطر وتعيّد في عيد الفطر - الصغير على ثلاثة أيام، وكذا تضحي وتعيّد في عيد الاضحى - الكبير على ثلاثة أيام .. ورام الله وفلسطين تحتذي حذو مملكة مكة في العيدين.
قلت: ليست العاصمة لكنها "العاصمة" أي ليست عاصمة البلاد والشعب، لكنها عاصمة بلاد السلطة وشعبها. "القلب ينبض في اليسار" وقلب عاصمة بلاد السلطة وشعبها ينبض في الوسط. انها احدث "عاصمة" عربية وأغرب عاصمة عربية، ولعلها ما قصده عزمي بشارة في شكواه من "ترييف المدينة"، وربما يعني "تمدين الريف".
هي شبه مدينة - حاضرة ستة أيام في الاسبوع (عدا الجمعة) وهي مدينة حاضرة في الأيام العشرة التي تسبق العيدين : فوضى وبسطات وحمى شراء (بيغ شوينغ) وايضاً، محطة باصات مركزية لقراها والمدن من نابلس حتى الخليل .. ارصفتها يوم الحشر!
أحب المدينة صباحات ايام الجمع، واحبها أكثر اول ايام العيد.. تصير "العاصمة" شبه الحاضرة قرية كبيرة، شوارعها فارغة، ارصفتها نظيفة.
نحن، فلسطينيي مدن الساحل المنكوبين كنا نتبادل الكلام "كل سنة وأنت سالم" وصرنا نتبادل الكلام "كل عام وأنتم بخير" .. لكن منذ النكبة يتساءلون: "عيد ..؟ بأي حال عدت يا عيد" و"عيدنا عودتنا"! هل يعود النهر من مصبه الى منبعه؟
العيد للأولاد، وعيد الأولاد مسدسات وبنادق كهربائية، وملابس جديدة، وأكوام من أكياس رقائق "الشيبس" وعيد الكبار زيارة الموتى والشهداء، وكثير من فناجين القهوة والسكاكر وحبات الشيكولا، وبالطبع عطلة ممتدة .. وفي "العاصمة" أيام هجرة سنوية الى الجهات الاربع، المدن والقرى الاصلية مدة اربعة أيام او خمسة او ستة.
سيذهبون في الجهات الاربع، الى قراهم ومدنهم، وسأبقى في "العاصمة" التي تعود قرية كبيرة نظيفة وهادئة. سأطبخ كما لم أطبخ. أنظف البيت كما لم أنظف، ارتاح ثلاثة أيام.. وأقرأ اربع روايات: آني ارنو - "الاحتلال"، ربعي المدهون - "السيدة من تل ابيب"، أليساندرو باريكو - "حرير"، وأكرم مسلم - "التبس الأمر على اللقلق".
.. وربما أكمل الموسوعة الضخمة: "تاريخ القرآن" التي حررتها ثلاثة أجيال من المستشرقين، وأولا سألقي السلام على الجاثم في المقاطعة، قائدي، وعلى الجاثم على التلة، الشاعر العام.
أعرف - لا أعرف هل أن هذا العدد من هذه الجريدة سيوضع على "الانترنت" أم لا؟ لكن أعرف انه سيبقى معلقاً - بائراً ثلاثة أيام في اكشاك بيع الصحف.
عدد العيد من "الأيام" نحرره يوم "وقفة العيد" وسيبكّر المحررون والمدققون والمنضدون وعمال المطبعة والموزعون في الانتهاء منه ليسافروا الى قراهم ومدنهم، وهو عدد يصح فيه القول: "لزوم ما لا يلزم".
العيد الكبير قيلولة كبيرة، سبات طويل، ربما عمل كثير لقاطفي الزيتون. لكنه، بالنسبة لي، اطول احتجاب للصحف اليومية ثلاثة أيام متصلة.
هدنة عن الموت غير الطبيعي في قطاع غزة، واحتمال هدنة عن الموت العبثي في سورية. عيد في منتصف الخريف، في موسم قطاف الزيتون، وعودة "العاصمة" الى سباتها قرية كبيرة نظيفة.. وما يهمني حقاً هو: هل تمطر في العيد ام لا، فتكون العيدية هي ان تشم رائحة المطر على الأرض العراء، لا على الأرصفة والشوارع الوسخة او النظيفة!
وفي مكة، سيدور الحجاج حول الكعبة ودرتها الحجر الأسود، كما تدور الشموس والنجوم والكواكب في المجرة. مشهد أخاذ بالفعل.
في يوم الوقفة، نشرت "الأيام" صورة فريدة وعملاقة لمجرتنا، درب التبانة، وفيها ٨٤ مليون نجم، وفي الكون ملايين المجرات، ولا بأس بالسؤال: أين هي شمسنا؟ أين هي مجموعتنا الشمسية؟ اين هي ارضنا؟ اين نحن .. أين أنا؟ أين الجنة وأين النار؟
نحن في عيد، والجريدة في "لزوم ما لا يلزم"!
كل سنة وأنتم سالمون!
نقلاً عن جريدة "الأيام"