حسن البطل
هنّ تضاحكن. العمة والكنّة وصبية الصف الحادي عشر. لست قريباً لهن ولا هن من أقربائي .. لكن ها هي عائلة فلاحية فلسطينية أنا ضيفها على المائدة يومين وعلى معصرتها نهارين.
هن ابتسمن في الواقع، لسؤال هذا "المدني" من رام الله، الذي أخرج من جيبه حبة زيتون عملاقة خضراء تماماً، وسأل؛ فأتاه جواب الفلاحات: هاي حبّة زيتون شامية. منيحة في الكبس، لا رصرصة بل تشطيب. زيتها خفيف.
كنتُ أظن أنها "طفرة" حبّة في شجرة، أو حتى انها كما "ملكة النمل" او "ملكة النحل" جسيمة الحجم. شهية بعد الكبس بالتشطيب، وأنا أرصرص واشطب او اكبس بلا هذا وذاك مؤونة عام او حتى عامين، وأسأل باعة الزيتون في شارع القدس - رام الله: هل هذا حبّ من نوع ألف - ألف نيبالي.
لا بد أن هناك زيتون ألف - ألف غير نيبالي في بلاد الشام، وفي تونس الخضراء، وفي لبنان ايضاً، وهذه بلاد، مع ايطاليا واليونان واسبانيا وحتى فرنسا تحصد وتعصر.. وتصدر اكثر منا، لكن ربما لا بلد فيها ناسه مثل ناسنا في أكل الزيتون والتغميس بالزيت، لكن اللبنانيين اشطر منا في اعداد منقوشة الزيت والزعتر (يضيفون لرغيف الخبز والزعتر بعض حبات الزيتون، وقليلا من مخلل الخيار، وبعض شرائح البندورة .. ووريقات من النعنع). آخر اكتشاف أن كنيسة الجثمانية بالقدس تحوي أقدم أشجار الزيتون في العالم؟!
معصرة "حجر البد" تراها في ساحات المدن الفلسطينية تراث الاجداد، ومعها هذه الحكمة "من الشجر الى الحجر"، لكن المعصرة في قرية رمانة، شمال غربي جنين، مثل أختها الأخرى، معصرة ايطالية ثمنها ٢٠ الف دولار. هنا يفرغون شوالات حبّ الزيتون في ما يشبه القمع الى الغسل، وبعد خطوات يملأون الاوعية بعصير دم الزيتون الاخضر.
خيّل إليّ أن القمع المليء بالحب يشبه في انخسافه حفرة من الرمال المتحركة، او دوامة بحرية صغيرة. خيّل اليّ أن دفق الصنبور يشبه دفق الدم في الشرايين الرئيسية. متقطع قليلاً ومتواصل.
فهمت لماذا لا يأبه فلاحو الزيتون هنا بنصائح خبراء الزيتون من الاتحاد الاوروبي، ويجمعون الحب في شوالات من خيوط البلاستيك، لا في سحاحير مهواة من البلاستيك.
الشباب يفرغون الشوالات في القمع، والاولاد يجمعون الاكياس اولاً بأول في كيس واحد، سيركنونه في مكان صغير من البيت لموسم الزيتون التالي، لكن السحاحير تأخذ حجماً ومساحة.
هنا، في شارع المنطقة الصناعية - رام الله ارى العمال يفتحون العلب ويأكلون، وهناك في المعصرة يفطرون جماعة على مائدة عشوائية من الزيت الطازج جداً والخبز الساخن، والخيار والبندورة والبصل الناشف ايضاً.
الجرارات ذات العربات تروح وتجيء من المعصرة واليها، تدخل حاملة شوالات الحبّ من باب، وتخرج محملة بتنكات الزيتون من باب آخر، ولكن بعد الوزن ١٦كغم لكل عبوة، وبعد محاسبة على الكالكوليتر، حيث للمعصرة حصة ٢١٪ من الزيت، او مبلغ نقدي.
برشاقة الهر والنمر يقفز الاولاد الصغار ١٥ - ١٦ سنة بوثبتين رشيقتين الى عجلة القيادة. شوالات الزيتون تأتي الدور للعصر اولا بأول وتخرج اوعية الزيت بالدور اولاً بأول، وايضاً هذا "الجفت" الى معامل الكبس كوقود للتدفئة.
معصرتان حديثتان لأربع قرى شمال غربي جنين، واحدة لآل الأحمد، وأنا ضيف عليهم في البيت والمعصرة، والأخرى لآل غيرهم، والقرية تتقاسمها ثلاث عائلات - حمولات - عشائر يحتل فيها آل الأحمد المرتبة الثالثة عدداً، وربما الاولى معنويا، لأن عزام الأحمد هو "الوجه السياسي"، وأما الجد "محمد" ٨٥ سنة فهو آخر الحفدة الاحياء. رشيق ويدخن "عربي" منذ ٧٠ سنة، وكان محارباً في حيفا، كما كان والد مضيفي أمجد محارباً هناك، فقد نصف مشط قدمه بانفجار لغم.
جاء آل الأحمد من بلدة يعبد مهاجرين بعد مشكلة عشائرية مع آل عبد الهادي قبل ٢٠٠ سنة، وذهب رجالهم الى القتال في حيفا، ثم استقبلت القرية بعض اهل حيفا، واقطعتهم مجاناً بعض الاراضي.
رمانة كلها اشجار زيتون تقريباً. أين الرمان؟ سألت. قيل لي أن الاسم نسبة للرومان لا لأشجار الرمّان. كم خسرت القرية من الجدار؟ حوالي ١٥٠٠ دونم، رفض الفلاحون أي تعويض نقدي او بالايجار.
متعة أن تمد أصبعك وتأخذ "لحسة" قبل أن يصب الزيت في الأوعية. متعة أن تملأ ربع كأس من الزيت وتكرعه. متعة أن تلعب مع رجال آل الأحمد دق طاولة مساء، او تكون على الفطور والغداء والعشاء مع العائلة، ربما مع العشيرة، ربما مع الفخذ، لأن صديقي يقدم الناس لي: هذا ابن عم .. ولو؟ كم ابن عم لك؟ بعض اعمامهم اخوة لأعمامي. واحد فقط قدموه لي: هذا ابن خالي.
أنا فضولي (اسم مركبة المريخ "فضول") ولعلني اشبعت بعض فضولي في قرية رمانة واخواتها الثلاث، ومنها أن "الأرض تفرق بالشبر" فعلاً .. أو بنسبة الزيت الى حبّ الزيتون في كل شوال.
نقلاً عن جريدة "الأيام"