حسن البطل
"هنا كان استيطان عربي، وهنا صار استيطان يهودي. نحن نحوّل بلداً عربياً إلى بلد يهودي".
الجنرال موشي دايان
***
كم حرباً تفصلنا عن حرب السويس العام 1956؟ قبل تلك الحرب، شكل المصريون الكتيبة 141 الفدائية الفلسطينية، رداً على الغارات الانتقامية الإسرائيلية ضد قطاع غزة، وكانت بقيادة الضابط مصطفى حافظ الذي اغتاله "الموساد".
في الرد على الرد، سقطت إسرائيلية تدعى "روعيه"، وفي تأبينها نطق دايان بعبارته أعلاه، ثم قاد جيشه في حرب العام 1967، وبعدها بدأت المرحلة الثانية للاستيطان اليهودي؛ الحدّ الثاني من المقصّ ولكن في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
في سنواتنا وأيامنا الراهنة، يعمل الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية عمل حدّي المقص. الحدّ الأول يدفع "الخط الأخضر" شرقاً، والحدّ الثاني يدفع الأغوار غرباً.
قرية بيت إكسا، حيث أقام نشطاء فلسطينيون قرية "باب الكرامة" اقتداءً بتجربة جديدة أولى في "باب الشمس".. هذا غرباً، لكن في الأغوار يعمل الحدّ الثاني من المقصّ، لإزاحة وتقويض وتفريغ الإسكان الفلسطيني، المبني منه والمتنقّل، سعياً إلى إحلال غالبية استيطانية يهودية في الأغوار، تمهّد لضمّه إلى إسرائيل.
تعمل الآلة الحربية النظامية الإسرائيلية وفق نظرية "ثنائي طائرة ـ دبابة".. لكن، آلية عمل "تحويل بلد عربي بلداً يهودياً" تعمل وفق "ثنائي جرافة ـ مستوطنة".
في خلفية الصور، قبل اكتساح الجرافة الخيام البيضاء لقرية "باب الشمس" تبدو سقوف القرميد للمستوطنة في الأفق، وفي الخلفية لمخيم "باب الكرامة" تبدو بيوت المستوطنة ذات سقوف القرميد.
وجه من وجوه المفارقة ذات الوجوه العديدة، أن الأيدي العاملة الفلسطينية تبني لهم المستوطنات ذات سقوف القرميد. صحيح، قال الشاعر: "نعصر الصخر ولا نرحل" لكن بناء المستوطنة على صخور التلال يبدو خياراً اضطرارياً لتحصيل لقمة العيش، وجمع مال يكفي لبناء بيت فلسطيني في القرية المجاورة للمستوطنة.
وجه آخر من المفارقة، وهو أن استراتيجية المقص، وتكنيك ثنائية جرافة ـ مستوطنة تعملان ضد الحضر وأراضي الفلاحين الفلسطينيين، كما ضد رعاة الأغنام من البدو في الأغوار. ضد بيت إكسا القديمة قدم التاريخ؛ وضد مضارب قرية المالح وخربة الميتة في الأغوار.
في الحالتين، يمهد الجنود في عرباتهم العسكرية لعمل جرافة الاكتساح للخيام بإبراز أمر عسكري يعلن المنطقة مغلقة. وفي المناطق المدنية المبنية بالحجر، يبرزون حكماً قضائياً يقول إن البناء غير مرخّص، أو حكم إخلاء لأن صاحبه كان يهودياً قبل إقامة إسرائيل!
الهدف من استراتيجية المقصّ وتكنيك ثنائية جرافة ـ مستوطنة هو حصرالفلسطينيين في أضيق نطاق، وبأقل مساحة من الأرض الزراعية.. ومن ثم إخضاعها في المنطقتين (أ و ب) إلى عمل فكي الكماشة وكسارة البندق والجوز!
ذات مرة، زرت ترشيحا، وهي أهم قرى الجليل الأعلى، وقبل النكبة، أي عمل الحد الأول من المقصّ، كانت أراضيها تتناثر حتى تلامس بحيرة طبريا والبحر المتوسط.. ولكنها الآن بلا أراضٍ زراعية بالمرّة تقريباً، وبعد الشارع الذي يحيط بها، فكل الأراضي معتبرة "أرض ـ دولة" و"أملاك الغائبين".. الحاضرين!
بيت إكسا، شمال غربي القدس، فقدت معظم أراضيها في مرحلتي النكبة والنكسة، وتكاد تكون محاصرة بالمستوطنات ومشاريع المصادرة.. وهناك أبرز الجنود لسكان "قرية الكرامة" أمراً بإعلان المنطقة مغلقة عسكرياً.
الحال هي الحال في "المالح" و"خربة الميتة" بالأغوار، حيث هدموا الخيام وبركسات إيواء قطعان الأغنام مرتين خلال 48 ساعة. الهدف هو، كما قال زعيم استيطاني: لا علاقة للفلسطينيين بالأغوار، أي لا علاقة للأغوار بدودلة فلسطين.. وكل الضفة الغربية "أرض متنازع عليها"!
يصل الهوس الاستيطاني حداً غير معقول في ضواحي مدينة الخليل، حيث تهدم الجرافات آباراً لجمع مياه الأمطار أقيمت حتى قبل قيام دولة إسرائيل، وموّلت ترميمها دول مانحة مثل كندا.
"هنا كان استيطان عربي.. وهنا صار استيطان يهودي" وهذه عملية أقرب إلى نوع من حرب إبادة على مهل، وهي جريمة حرب بكل معنى ومقياس.
العجيب أن واشنطن ضد لجوء فلسطين إلى محكمة الجنايات الدولية.. لكنها تثرثر ضد كل "عمل أحادي الجانب"؟!
نقلاً عن جريدة "الأيام"