حسن البطل
لقرائي أن يطالعوا على صفحتي مشاركتي للسورية لبنى زاعور، واختها كندة ورفيقتيها الشابتين دالي ورؤى لتجربة احتجاج سلمي على الحرب الأهلية، كانت عقوبتها اعتقال دام ٥٠ يوماً.
ارتدت الشابات الأربع ثوب العرس الابيض، وسرن في سوق مدحت باشا، حاملات يافطات حمراء (لون الدم!) وعليها هذه الصرخة: "لأجل الانسان السوري، المجتمع المدني يعلن: وقف جميع العمليات العسكرية في سورية" التوقيع "سوري ١٠٠٪".
إنها أبلغ أثراً ووقعاً من صور النساء القناصات المنتميات للمعارضة المسلحة او لقوات النظام في "جيش الدفاع الوطني". رواد السوق صفقوا وزغردوا استحساناً؛ وأمن النظام اعتقلهن وسامهن سوء العذاب والاهانات والبهدلة والتعذيب والتجويع. هذه تجربة ربما تبزّ شاهدات وشهادات سمر يزبك الموثقة في كتاب "تقاطع النيران" مطلع الشهور التسعة الاولى من الفوضى السورية المتمادية.
في التحليلات الصحافية تقرأون لماذا يختلف تعامل المجتمع الدولي مع "ربيع" ليبيا مثلاً عنه مع "ربيع سورية". تقول هذه التحليلات: لا نفط ولا غاز في سورية، ولا معادن ثمينة مثل يورانيوم مالي والصحراء الافريقية.
لكن في سورية تجربة عربية لا مثيل لها، لا في دول "الربيع" العربي ولا في دول النفط العربي والغاز العربي .. والتآمر العربي.
سأبدأ من مثال بسيط، يتبدى في خلفية صورة العرائس في شارع مدحت باشا. كم تغيرت سورية في غربتي عنها، وكم تغيرت اسواقها القديمة (الحميدية، الطويلة، مدحت باشا) وايضاً دمشق القديمة التي لم تعد تشبه "باب الحارة".
يبدو السوق جميلاً ورائعاً، بعد عملية تحديث شاملة لحوانيته وسقفه المعدني، كأنه ارتدى "يونيفورم" آخر، غير ما كنت أعرفه من فوضى الحوانيت.
أعرف، شخصياً من تجربتي، ان أغبى مخابرات عربية هي المخابرات السورية.. وربما اكثرها عسفاً وبطشاً.. وعندما أحالوني في استخبارات فلسطين - الجيش السوري لفتح ملف أمني آخر، غير ملف "فرع فلسطين" سألني المحقق الأهبل: ما هي أسماء أصدقاء الطفولة.. في المدرسة الابتدائية، وكان لي من العمر ٤٥ سنة، فتصور يا رعاك الله، انك لا تتذكر الاسماء الحقيقية لرفاقك الشباب والرجال الذين سقطوا في حروب لبنان، او أهلكهم مرض عضال!
سورية لم تعد سورية، والسوريون لم يعودوا سوريين ١٠٠٪ بعدما كانوا عرباً بنسبة ٩٠٪، لكن سورية ليست بلداً عربياً آخر .. انها البلد العربي الفريد. لماذا؟
هي البلد الوحيد العربي الذي حقق توازناً معيناً ما، بين انشطته الاقتصادية: التجارية، الصناعية، الزراعية .. والسياحية، بينما اقتصاديات دول عربية تقف على ساق واحدة: نفط، غاز، سياحة .. او زراعة.
ما يجري في سورية لا يدور بين عنف النظام وعنف المعارضة، او حتى مجرد حرب أهلية، بل ما يجري هو تدمير الدولة السورية ونقضها تماماً، وتدمير النموذج السوري الفريد في التوازن الاقتصادي النسبي المفقود في بقية البلاد العربية.
نعم، كان نظام الأسد - الأب بطاشاً، لكنه منح البلاد ثلاثة عقود من الهدوء، وخلالها ازدهرت البلاد والعمران، ولو بشكل غير متكافئ. لا يعنيني، الآن، نظام مقاوم، او نظام مساوم، او نظام مناور، بل مصير بلد عريق عمره 8 آلاف سنة، مهد الابجدية، والمهد الحقيقي للمسيحية والعروبة والامبراطوريات العربية .. وتمتع بثلاثة عقود من الهدوء، تفتحت خلالها قريحة السوريين في كل صنوف الاقتصاد والعمران.
الصناعة التحويلية السورية، وكذلك النسيجية والألبسة، وكذلك صناعة الحلويات، وامور لا حصر لها.. لا يوجد ما يضاهيها في البلاد العربية، وحتى الاجنبية احياناً.
عبارة مثل "يا مال الشام" ليست تُلقى في الهواء وواحد فلسطيني كتب تعليقاً على مسيرة العروسات في سوق الحميدية، يقول: "بمناسبة المولد النبوي .. بدنا ملبس لوز شامي - بيض الحمام".
هناك اسباب تجعل شعوب بلاد الشام والعراق تخوض حروباً اهلية مدمرة، وتدخل مرحلة "عمادة الدم" والخراب، لكن ليس لأي بلد من هذه البلاد، وبقية البلاد العربية، هذا التوازن النسبي بين فروع الاقتصاد المختلفة.
يقولون إن انهيار الاتحاد السوفياتي كان نتيجة، ايضاً، لصراع شركات تمديد انابيب الغاز الى اوروبا، وان تدمير الدولة السورية هو من اجل تمديد الانابيب الى تركيا ثم اوروبا من الخليج العربي - الاسلامي - الفارسي.. السخامي!
يمكن ان تفهموا سورية، النظام والشعب واسباب الحرب والقمع .. فقط من مظاهرة اربع عرائس في سوق تاريخية قديمة في دمشق القديمة.. او شارع حديث وجميل في مدينة حمص المدمرة، او حلب الشهباء، التي يبيعون حديد مصانعها خردة الى تركيا!!
نقلاً عن جريدة "الشرق الأيام"