حسن البطل
ماذا لو زارتنا كائنات عاقلة من هذا الكون السحيق؟ تقول إحدى الفرضيات العلمية الغريبة، إن أكسجين هواء كوكبنا قد يحرقهم، إن كان هواء كوكبهم من الميثان مثلاً.
يقولون، في لغة البشر: جاد بأنفاسه الأخيرة، ويضربون الوليد على كتفه، أحياناً، ليبدأ هذا الشهيق والزفير، ومعه يبدأ هذا الاحتراق البطيء، إلى أن يجود البشري بأنفاسه الأخيرة.
ما الفرق بين عيادة صديق وزيارته. لا أرى فرقاً كبيراً، غير أن الصديق المريض يراه، ويرى الصحة تاجاً على رؤوس من يزوره أو يزوره في عيادة وهو يرقد على سرير المرض.
تواعدت مع علي مراراً على زيارته، منذ كتب في "أبجدياته" كيف يمضي بقصفة مريضة من نباتات حديقته إلى الخبير الزراعي "أبو خلدون" في عمارة "الرعاية الطبية العربية".. وإلى أن كتب قصيدة نثرية عن أولى بواكير الثمار في أشجار حديقة بيته.
صارت حياة علي مثل قصفة مريضة. يقولون: اللهم أعطني ظهراً قوياً، وهذا السرطان ضربه في ظهره فأقعده في السرير، وكان في لقاءاتنا السريعة يشكو لي تعب القلب من تعب الحياة.. من تعب التدخين: نيكوتين وقطران و42 مادة مسرطنة تدخل رئتيك مع كل مجّة سيكارة. دعكم من الحكمة والموعظة.. وإحصائيات الموت بالسرطان!
ضحك علي كأنه يبكي، ثم بكى.. ثم قال بعد أن تناول سيكارة، وسيكارة أخرى، من "الغولواز" الأزرق الثقيل: لا في القلب يا حسن ولا في الرئة.. ها قد ضربني الوغد في العمود الفقري!
السرطان خبيث وتخابث على علي فأخجله خبثه، ومنعه من الوقوف على قدميه والذهاب بنفسه لقضاء حاجته الطبيعية.. وأعاده إلى زمن حفاضات الطفولة.
كان خوف محمود درويش أن يقعده الشلل من انفجار صفائح كوليسترول الشرايين عن المشي، أي أن يذهب إلى الحمّام على دواليب العربة.
كان خوف ممدوح عدوان من السرطان الخبيث أن يبادره هو إلى الهجوم: "السرطان خبيث.. وسأغلبه، فأنا أخبث منه" قال!
كان خوف سعد الله ونُّوس من السرطان الخبيث، هو ما قاله درويش في آخر قصائده: "هزمتك يا موت الفنون جميعها"، وكتب ونُّوس أجمل أنشودة في مديح الحياة وقت غروب حياته.
تُرى هل أصيبت شجرة ليمون في حديقة علي بسرطان نباتي فجعل بعض ثمارها يسخر من تكوين الاستدارة البديع؟ لا أدري سوى أن الحياة طفرة في الأرض، والإنسان طفرة الحياة.. وأن السرطان طفرة شاذة في نمو الخلايا، أو مثل برنامج التدمير الذاتي في ملفات سرية!
عاد علي إلى حروفه، والحروف أبجديات، وعاد إلى عاداته في مجّ سيكارته: ها قد ضربني في العمود الفقري ولم يضربني بما يعطل الشهيق والزفير.. وتساءل في أول أبجدية بعد المرض: كم نوعاً للسرطان؟ مائة أو مليون، وفي أبجديته الثانية، أمس الاثنين، وعدني وعد الأمل: سأرد عيادتك لي بزيارة لك. كتمت مزاحاً ثقيلاً: هل يضرب السرطان مواليد برج السرطان مثلي؟ أو "من لم يمت بالسيف.."، "من لم يمت بالرصاص.."، "من لم يمت بالقلب"، أو رأيت الموت خبط عشواء، أو رأيت ضربة السرطان خبط عشواء.
رافقني في الزيارة ـ العيادة صديقي عيسى سلامة، الذي يعرف علي ويقرأه ويُحبّه وهذا لا يعرفه، وقال لي علي: أنت يا حسن واحد من خمسة أصدقاء أقبل أن يعيدونني وأنا على هذه الحال!
إنه واحد من قلة يشاركونني هذا الدأب وهذه المثابرة على حرفة الحرف. كنت أقرأه وأنا في بيروت ونيقوسيا ورام الله، وكان يقرأني في رام الله وأنا في بيروت ونيقوسيا، كما أفعل مع سميح القاسم، وعلي وسميح أوسمهما رئيس السلطة تقديراً واحتراماً، وهذا وذاك ضربهما السرطان.. إنهما قويان على السرطان القوي!
الخبيث هو المحتال، أيضاً، ومن خبث المحتال أن يضرب الضربة غير المتوقعة، كثيرون توقعنا موتهم بأمراض ما، فإذا هم يموتون بغيرها.. والسرطان المحتال يعيد برمجة خلاياه قبل الضربة الأخيرة، فيشعر المريض أنه شفي، لكنه الانقشاع الأخير قبل ضربة الإجهاز القاتلة الأخيرة على الحياة: شهيق زفير!
أغلق علي نافذة "الأبجديات" وها هو يفتحها بشجاعة الأمل أن تنتصر الإرادة على المرض.
.. وأن نشرب قهوة علي وزوجته سامية في حديقة منزلهما.
***
هذه السطور تحية لأبجديات علي، أمس، الاثنين.. تحية لشجاعته.
نقلاً عن جريدة "الأيام"