مصر اليوم
في المجاز القديم، زمن تكوين ثروة بالعمل العضلي الشاق، كان يقال: أب نحيف يورث ثروته لولده البدين، الذي يبددها .. وهكذا دواليك!
الزعامة العربية لا تورّث بالعمل الشاق العضلي، ومن ثمّ فإن الأسد - الأب كان معتدل القامة ورشيقاً؛ والأسد - الابن مديد القامة وأهيف البدن.
الرئيسان - الزعيمان القوميان بددا ذخر مكانة سورية الأثيرة في عالمها العربي، والابن بددها فوق ذلك في العالم ولدى شعبه.
الفارق بين الأب وابنه، غير غرامهما بالثرثرة في اللقاءات الرسمية مع زائريهما (كان كيسنجر يقول أن من يلتقي الأسد - حافظ تلزمه مثانة قوية) هو أن الاول جعل بلده لاعباً اقليميا؛ والثاني جعلها لعبة اقليمية ودولية.
.. والآن، مع محنة سورية، سيقال المثل الشعبي القديم: "من زيتو إقليلو" فالأسد الشاب المزهو بذراعه اللبناني، نصر الله الذي اطلق الصواريخ على "حيفا وما بعد حيفا" زلّ لسانه، وعيّر زملاءه الزعماء العرب، ونعتهم بـ "أشباه الرجال".
المحللون العرب يحكون عن "أزمة زعامة" لدى القادة العرب، وأما اسرائيل فتحكي، منذ هذا الربيع العربي.. وقبله بكثير عن أزمة الكيان الدولاني القطراني العربي، فهي دول غير متجانسة: قومياً (اثنيا) ودينياً .. وحتى مذهبياً، أي هي دول مصطنعة صنيعة قوى اجنبية (انظروا الى حال التيارات السطحية في تيار "الربيع العربي" العميق).
صحيح، أن اسرائيل تشكلت دولة بُعيد تشكل الكثير من الدول - الاقطار العربية "المصطنعة" لكنها تبدو وقد نجحت في جمع أشتات قومية في جسم ديني لدولة واحدة، ديمقراطية لليهود، ومشاكل المتزمتين الدينيين مع العلمانيين تبدو مضبوطة، الى الآن، قياساً بالتفكك القطري الدولاني العربي.
كان العرب، أبّان المدّ القوموي العروبي، يصفون اسرائيل "دولة شذاذ الآفاق" وكان، في المقابل، اصحاب دعوات الكيانية اللبنانية الازلية يزعمون أن لبنان المتآلف دينياً ومذهبياً، هو النموذج والتحدي الديني - الحضاري لـ "دولة شذاذ الآفاق" .. هذا انتهى!
في النموذجين العربي القطراني والاسرائيلي نلاحظ ان الجيش (العسكرتاريا) يلعب دوراً مركزياً من حيث "خدمة العلم" .. باستثناء طائفة "توراته عمله" وباستثناء اهم واكبر، وهو أن اسرائيل لا تعرف "الانقلابية" العسكرية، ولا تتوفر فيها احزاب حاكمة لا تتداول السلطة عبر الصندوق، ومن ثم تداول الزعامة السياسية.
لاسرائيل ثلاثة أركان : الصهيونية، اليهودية .. واخيراً الاسرائيلية، وفي زمن المد العروبوي الناصري كانت العلاقة بين القومية والقطرانية والدينية أقل تنازعاً بكثير من الوقت الحاضر (الاسلام لا ينفك عن العروبة والصهيونية لا تنفك عن اليهودية).
الى زمن طويل، ظلت اسرائيل تنفي عن فلسطين صفة دولة لأنها لم تكن كذلك .. وصفة "شعب" لأن شعبها مجرد عرب، على رغم ان الشعب الفلسطيني هو الأكثر تجانساً دينياً ومذهبياً بين الشعوب والدول القطرانية العربية. الآن تمسك اسرائيل بذريعة الانقسام الجغرافي - السياسي الفلسطيني، الذي تسببت فيه.
لا يمكن تماماً القول "رمتني بدائها وانسلت" عن اسرائيل ونظرتها وسياستها ازاء دول تفتيت المحيط العربي، لأن الفارق هائل بين "ديمقراطية لليهود" وانعدام الديمقراطية العربية وسيادة دور "الزعيم" العربي المستبد أو حكم "الرجل القوي" او الطغمة في دول قطرانية ضعيفة.
"مش كل رجل بصير زعيم، ومش كل زعيم بصير زعيم علينا" هكذا قالت أمي عن ياسر عرفات، الذي حاول الجمع بين الزعامة والقيادة الديمقراطية والتحرر الوطني.
عدا عرفات، هناك زعيمان عربيان يستحقان نعت "الزعيم" هما عبد الناصر والسادات. الاول لأنه استقال بعد الهزيمة، والثاني لأنه حارب وسالم .. وفي الحالتين فاجأ العدو الصديق.
هناك طغاة عرب، في العراق وسورية وليبيا مثلا، حاولوا وراثة الزعامة الناصرية لكنهم أجبن من الاعتراف بهزيمة مشاريعهم، اغبياء او حمقى!
الآن، مع كشف مخابراتي جديد لـ CIA نعرف أن السادات ضلل حتى الرئيس الاميركي ريتشارد نيكسون، اضافة لتضليله لاسرائيل ومخابراتها .. الحرب خدعة والسلام كذلك.
في المقابل، صدام كان بطّاشاً وغبياً، ومثله كان الأسد - الأب، ثم الأسد - الابن، ومن قبل القذافي .. وهناك في مصر ازمة زعامة مع تجربة ديمقراطية جديدة وعكرة، ومشروع استبداد اسلامي لا يبدو انه سينجح.
المأساة العربية تتجسد الآن في سورية التي تتفكك شعباً ودولة ونظاماً .. وجيشاً لأن الأسد تأخر في "الدمقرطة" وتأخر في استخدام اسلحته مباشرة .. ومن ثم غيره "أشباه الرجال" استحق النعت "أشباه الزعامة".
تبقى ملاحظة: لا صحة للادعاء الاسرائيلي عن أسباب التفتت العربي: القومي والديني والمذهبي، لأن أقوى دولة في العالم هي الولايات المتحدة، وهي مزيج فسيفساء يربطه ملاط الديمقراطية، وقوة المؤسسة الاتحادية، والتقدم العلمي والاقتصادي.. وتخلو من "ازمة زعامة".
العالم العربي القديم يتفكك، والجديد يتشكل مع كل الآلام والخيبات.