حسن البطل
الطفلات صرن أُمّهات.. هذه سُنَّةُ الحياة، غير أن الطفلات هُنَّ بنات إخوتي الإناث، وصرن أُمَّهات في غربتي "الأبدية" عن سورية.. ربما هذه ضريبة عربية على الفلسطيني.
ما هو غير العادي؟ جميع إخوتي الذكور والإناث يعيشون في سورية، لكن طفلات إخوتي الثلاث اللواتي صرن أُمَّهات جميعهن تزوّجن من شبّان سوريين.
يحقُّ لي، والحال هذه، أن أكون تماماً فلسطينيا ـ سوريا، فقد عشت سورية في تحوُّلاتها، وفوق هذا صرت "صهراً" لسورية السورية ـ الفلسطينية.
سورية، الآن، هي بالنسبة للعالم ولبعض العرب: معارضات متعارضة ونظام عنيد، وبالنسبة للفلسطينيين هي ما كان "البلد الأمين" أولاً، وهي "المريض السوري" الآن. وجع على وجع، وأسى فوق الأسى.. أو كما قالت امرأة أعرابية لحبيبها: "ويلي عليك وويلي منك يا رجل"، أو كما يقول المثل الفلسطيني "عمر الأسى لا يُنتسى وإنتو أساكم زاد"!
واحدة من بنات إخوتي تزوجت من شيوعي، علوي، سوري وتقيم في طرطوس. زوجها نشيط في المعارضة، وهي نشيطة على صفحتها في الـ "فيسبوك" بالاهتمام بكل واردة وشاردة في فلسطين.
طرطوس؟ كانت المرفأ البحري لرحلاتنا المدرسية، وصارت مرفأ الهجرة الداخلية السورية من مختلف الطوائف، حيث لجأ إليها 400 ألف مواطن سوري إضافي. عندما تقول لي ابنة أختي إن النسيج السوري لم ينفرط تماماً بعد، أتذكر كيف كان النسيج اللبناني إبّان الحرب الأهلية اللبنانية: كنت جاراً وصديقاً لجيران لبنانيين موارنة في بيروت الغربية طيلة تلك الحرب، واللاجئون السوريون إلى "مرفأ" الأمان في طرطوس هم صورة موزاييك عن المجتمع السوري: قومياً ودينياً ومذهبياً.
في الحرب الأهلية اللبنانية كانت مشاريع للتقسيم ومخاوف عنه، وكنت أرى أن ما يمنع هذا هو "ثقافة حياة" تشدّ اللبنانيين بعضهم إلى بعض، وفي الحرب الأهلية السورية قد تنتصر المعارضة على النظام، أو ينتصر النظام على المعارضة.. لكن الولاء السوري لسورية سوف ينتصر على الاثنين.. غير أن فلسطينيي سورية خسروا "البلد الأمين" من بلاد اللجوء.
يذهب هذا "الربيع العربي" بالشعوب إلى عصبياتها القديمة وطوائفها ومذاهبها، وقد قيل في حرب لبنان الأهلية إن هناك 16 طائفة لبنانية، لكن هناك شعبا واحدا في لبنان، هو الشعب الفلسطيني!
.. غير أن الفلسطينيين في النسيج اللبناني غيرهم في النسيج السوري.. ومن ثمّ، فهناك فلسطينيون في جبهة المعارضة، وفلسطينيون في جبهة النظام.. وفي النتيجة؟ اضطر نصف الفلسطينيين في سورية إلى هجرة داخلية وخارجية (ربع مليون من أصل نصف مليون) وهذه أعلى بأضعاف من نسبة الهجرة الداخلية والخارجية للسوريين.
أولاً بأول يطلعني موقع "الطيرة ـ نت" على حال الفلسطينيين في أكبر تجمعاتهم (يسمون اليرموك مخيماً، مع أنه مدينة أو ضاحية من ضواحي دمشق) ويطلعني بالذات على أسماء القتلى من سكانه ذوي الأصول الطيراوية مثلي، فأجد في بعضهم أبناء عمومة وخؤولة.
في الأسبوع الأول من شباط الجاري سقط 12 فلسطينياً في اليرموك، بينهم 6 من أسرة واحدة، أي أكثر من قتلى الفلسطينيين في فلسطين. بعض التجمعات الفلسطينية في سورية فلسطينية صرفة تقريباً مثل مخيم النيرب، لكن في ريف دمشق يتداخل النسيج السوري كلياً بالنسيج الفلسطيني، خاصة في "مخيم" اليرموك، وهو بوابة العاصمة دمشق.
ما الذي يجري في سورية؟ حرب أهلية ـ إقليمية ـ عالمية، وبالنسبة لرئيس وزراء العراق، نوري المالكي، الذي عاش فترة في سورية، فإن النظام لن يستسلم ولو لحق الخراب والدمار بالبلد السوري.
أتذكر كيف برر الأسد ـ حافظ تدخل جيشه في لبنان. قال: موارنة لبنان خائفون وسيقاتلون للنهاية دفاعاً عن طائفتهم.. ومثل هذا يقول نوري المالكي عن سورية: الحزب والنظام والطائفة سيقاتلون دفاعاً عن حكمهم وحياتهم. وفي النتيجة؟ يقال أحياناً أن العملية الجراحية نجحت.. لكن المريض مات، والذي في خطر الموت هو سورية البلد!
كانوا يقولون: قطر تريد مد أنابيب غاز عَبر سورية إلى تركيا وأوروبا لمضاربة احتكار الغاز الروسي لأوروبا؟ وكانوا يقولون إن الغرب لا يتدخل في سورية عسكرياً لأنها بلاد بلا نفط تقريباً. والآن، يقولون عن مكامن غاز هائلة بين حمص ودمشق!
النظام يتصرّف وفق حسابات حلفائه: "ربيع بكين" فشل، و"الربيع الأخضر" في إيران فشل، وروسيا انتصرت على التمرُّد الشيشاني.. فلماذا لا ينتصر النظام السوري بدوره؟
هذه حسابات خاطئة، لأن توازنات الصين وإيران وروسيا والجزائر، أيضاً، غير توازنات سورية.
سورية وجع سوري وعربي وفلسطين.. وشخصي، أيضاً. صورة العالم العربي الجديد سترتسم في مصر وسورية.
نقلاً عن جريدة "الأيام"