حسن البطل
من النبع (الوطن) الى المصّب (الشتات): أواخر التسعينيات روى لنا ابو فادي، نائب رئيس سابق لبلدية ترشيحا - معلوت، قصتين حدثتا معه في السبعينيات والثمانينيات.
الأولى: لما كان نائب رئيس البلدية، طرقت باب بيته امرأة فاستضافها، وروت قصتها. هي ترشيحاوية مقيمة بسورية، زارت ابنها المقاتل في جنوب لبنان.. ثم "تسللت" لزيارة مسقط رأسها ترشيحا.
ما لبث أن طرق بابه رجل مخابرات طالباً التحقيق، فزجره ابو فادي: عيب .. نحن عرب، وضيفتي في رعايتي.. عد بعد يومين .. وعادت المتسللة من حيث أتت.
الثانية: بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، أمسك بتلابيب ضابط، وقال: "إسّا بدي تصريح لزيارة لبنان". اول بيت في أول مخيم بجنوب لبنان، طرق بابه .. فتحت الباب لاجئة ترشيحاوية. قال: الله أكبر!
لذلك، صاح أميل حبيبي بعد صبرا وشاتيلا: لاجئو لبنان "بعض لحمنا ودمنا". للمصادفة كان ضيفاه طيراويا ولد في طيرة - حيفا، وصديقه الترشحاوي المولود في مخيم النيرب!
عن علاقة ترشيحا (أكبر قرى الجليل) بالطيرة (أكبر قرى حيفا) تحدثنا؛ وتحدث صديقي عن علاقاتهم في مخيم النيرب، قرب حلب. المخيم هو فلسطين في المنفى، وفي النيرب يشكل الترشحاوية والطيراوية ثلث سكانه.
في الكبابير، قرب الطيرة، صاحت رسمية، رحمها الله، ابنة خالة أمي: "راحوا الطيراوية". انهم في حيفا حيث ساهرة درباس، صاحبة الأفلام الوثائقية عن نكبة الطيراوية والفلسطينيين، وفي دوما كان بعض أصدقاء طفولتي من عائلة درباس، ولها فروع في مخيم اليرموك ومخيم النيرب .. وربما باقي مخيمات سورية.
الآن، يسقط قتلى في اليرموك، بعضهم من آل درباس (حسب موقع الطيرة - نت) ويسقط قتلى في مخيم النيرب، بعضهم من آل الدرباس .. وعلى "الانترنت" يتابع صديقي وأتابع مأساة الفلسطينيين في سورية.
اليرموك خاصرة دمشق العاصمة السياسية، والنيرب خاصرة حلب - العاصمة الاقتصادية المدمرة.. واليرموك "عاصمة" المخيمات الفلسطينية في سورية.. وأما النيرب فهو في محنة خيار قاسية. انه أفقر المخيمات والاكثر اكتظاظاً في العالم قاطبة.
خليط عصابات تسمى "الجيش الحرّ" وجهت انذارا لسكان المخيم بإخلائه، تمهيدا للسيطرة على مطار حلب الدولي المجاور بل الملاصق للمخيم، الذي لجأ اليه لاجئون فلسطينيون من حلب المدمرة.
إلى أين يذهب ٤٠ ألفاً من سكانه، ومعظمهم فلسطينيون، وبعضهم اشترى قطعة ارض وبنى عليها بيتا في ضواحي المخيم، لأن سورية تسمح للاجئين فيها بقطعة ارض لبناء مسكن وليس تملك ارض زراعية.
من اجل الضغط على أهل المخيم، خطفت عصابات "الجيش الحر" بعض رجاله، آخرهم ثلاثة، وعذبتهم ثم قتلتهم لأنهم يدعون الناس الى البقاء في المخيم. واحد منهم هو حكمت درباس، متزوج وله أربعة أولاد.
واحد من أخوة صديقي وجاري الفلسطيني الترشحاوي يقيم في حلب، ويفكر بالهجرة الى بلغاريا كلاجئ سياسي، حيث درس صديقي هناك ويحمل جنسية البلد، ولديه بيت في العاصمة صوفيا.
عمل شقيق صديقي سنوات في دول الخليج ليؤمن عيشاً كريما لعائلته.. والآن، سيغادر سورية، مسقط رأسه وموطنه الثاني، ويهاجر الى خارج العالم العربي كله كما فعل لاجئو العراق، وبعض لاجئتي لبنان.
بعد خروج المقاتلين من بيروت قال درويش: "هي هجرة أُخرى فلا تلقي السلاما" وبعد "حرب المخيمات" في بيروت قال: "إذا رجعتم ذات يوم فلأي منفى ترجعون"؟
حسب إحصائية القتلى السوريين كما نشرتها الأمم المتحدة سقط، حتى الآن، زهاء ٧٠ الف سوري، بعضهم لاجئون فلسطينيون، لكن حسب إحصائية اللجوء الداخلي والى دول الجوار، فإن نصف عديد الفلسطينيين في سورية البالغ ٥٠٠ الف غادروا اماكن سكناهم مضطرين.
المعدود (الجمع) يحمل خصائص العدد (المفرد) وحكمت درباس مفرد - عدد، والفلسطينيون في سورية جزء من المعدود السوري، وسورية كانت "البلد الأمين" من بلاد الشتات الفلسطيني .. ولم تعد كذلك.
يمكنكم ان تقرأوا الجزء الثاني من "أيام الثقافة": "فلسطين التي هناك؛ سورية التي هنا".. أو انظروا إلى الصحف: أنصار حزب "النهضة" الإسلامي في تونس يرفعون الكوفيات الفلسطينية وعليها العلم وصورة المسجد الأقصى، بينما يلقي حسن نصر الله خطابه الأخير تحت صورة وعبارة "في الطريق الى فلسطين".
كان هذا الطريق حجة وشعاراً للنظم العسكرتارية العربية، وصار حجة وشعاراً لمعارضيها .. وفي الحالتين عانت فلسطين والفلسطينيون .. وستعاني.
لم ير حكمت درباس أرض فلسطين أبداً، كان يحلم ان يعود أولاده إليها. ما العمل؟ "وحدي أدافع عن جدار ليس لي"؟
نقلاً عن جريدة "الأيام" الفلسطينية